تعالى ، واشتقاق القدير من القدرة لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدار قوّته أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته ، وفي ذلك دليل على أنّ الحادث حال حدوثه والممكن حال بقائه مقدوران ، وأنّ مقدور العبد مقدور الله تعالى خلافا لأبي علي وأبي هاشم لأنه شيء وكل شيء مقدور ، واحتج بعض الفرق بأن هذه الآية تدل على أن الله تعالى ليس بشيء ، قال : لأنها تدل على أنّ كل شيء مقدور لله تعالى والله سبحانه وتعالى ليس بمقدور له فوجب أن لا يكون شيئا ، واحتج أيضا على ذلك بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى ، ١١] قال : لو كان هو تعالى شيئا فهو تعالى مثل مثل نفسه فكان يكذب قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فوجب أن لا يكون شيئا حتى لا يناقض هذه الآية.
واعلم أنّ هذا الخلاف في الاسم لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، واحتج أصحابنا بوجهين : الأوّل قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام ، ١٩] والثاني قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص ، ٨٨] والمستثنى داخل في المستثنى منه فوجب أن يكون شيئا ، وأجيب عن قوله : إنّ هذه الآية تدل على أن الله تعالى قادر على نفسه بأنّ تخصيص العام جائز في الجملة وأيضا تخصيص العام جائز بدليل العقل.
فإن قيل : إذا كان اللفظ موضوعا للكل ثم إنه تبين أنه غير صادق في الكل كان هذا كذبا وذلك يوجب الطعن في القرآن ، أجيب : بأنّ لفظ الكل كما أنه مستعمل في المجموع فقد يستعمل مجازا في الأكثر فإذا كان ذلك مجازا مشهورا في اللغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذبا. ورقق ورش الراء من قدير وصلا ووقفا ، وباقي القراء بالترقيق وقفا لا وصلا.
ولما عدّ سبحانه وتعالى فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل تعالى عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات بقوله تعالى :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣))
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) تحريكا للسامع وتنشيطا له واهتماما بأمر العبادة وتفخيما لشأنها وجبرا لمشقة العبادة بلذة المخاطبة ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد ، إمّا لعظمته كقول الداعي : يا رب ويا ألله وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، أو لغفلته وقلة فهمه ، أو للاعتناء بالمدعوّ له وزيادة الحث عليه ، ولفظ الناس يعم الموجودين وقت النزول لفظا ومن سيوجد تنزيلا للمعدوم منزلة الموجود ، لما تواتر من دينه عليه الصلاة والسّلام أنّ مقتضى خطابه وأحكامه شامل للقبيلين ثابت إلى قيام الساعة إلا ما خصه الدليل وإن قال الإمام الرازي : الأقرب أنه لا يتناوله لأن (يا أَيُّهَا النَّاسُ) صرف خطاب مشافهة وخطاب المشافهة مع المعدوم لا يجوز وتناوله له لدليل منفصل وهو ما تواتر من دينه عليه الصلاة والسّلام أنّ أحكامه ثابتة في حق من سيوجد إلى قيام الساعة.
فإن قيل : روي عن عقبة والحسن وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن كل شيء نزل فيه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فمكي و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فمدني ، فكيف تكون هذه السورة مكية وقد نزلت