والدرهم وقيل : جمع سماءة. والبناء مصدر سمي به المبني بيتا كان أو قبة أو خباء ومنه : بنى على امرأته لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا. وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) معطوف على (جَعَلَ) والمراد بها ، إمّا السحاب فإنّ ما علاك سماء ، وإمّا الفلك فإنّ المطر يبتدىء إمّا من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض كما دلت عليه الظواهر من الآيات كقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) [لقمان ، ١٠] وقوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) [الزمر ، ٢١] ، وعن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا فيجتمع في موضع فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه فيسوقها الله حيث شاء ، وإما من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحابا ماطرا. (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ) أنواع (الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) تأكلونه وتعلفون منه دوابكم وخروجها بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادّة لها كالنطفة للحيوان بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أبدع في الماء قوّة فاعلة وفي الأرض قوّة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو تعالى قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والموادّ ، ولكن له في إنشائها مرتقيا من حال إلى حال صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا وسكونا إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إيجادها دفعة.
تنبيه : (مِنَ) الأولى للابتداء و (مِنَ) الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) [فاطر ، ٢٧] لأنّ ثمرات جمع قلة منكر واكتناف المنكرين لها أعني ماء ورزقا كأنه تعالى قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهذا التبعيض هو الموافق للواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ولا جعل بالمطر كل المرزوق ، ويصح أن تكون (مِنَ) الثانية للتبيين ورزقا مفعول وهو المبين بمعنى المرزوق كقول القائل : أنفقت من الدراهم ألفا ، فإن من الدراهم بيان لقوله عقبه ألفا.
فإن قيل : المحلّ محلّ جمع الكثرة فكيف أتى بجمع القلة؟ أجيب : بأنّ الجموع يتناوب بعضها موقع بعض كقوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) [الدخان ، ٢٥] وأوقع جمع القلة موقع جمع الكثرة بدليل ذكركم وكقوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة ، ٢٢٨] فأوقع جمع الكثرة موضع جمع القلة لأن مميز الثلاثة لا يكون إلا جمع قلة أو لأنّ الثمرات لما كانت محلاة باللام خرجت عن حدّ القلة (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي : شركاء في العبادة.
فإن قيل : لم سمى ما يعبده المشركون من دون الله أندادا مع أنهم ما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله؟ أجيب : بأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات قادرة على أنها تدفع عنهم بأس الله وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير فتهكم الله تعالى بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ندّ ولذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق دين قومه (١) :
أربا واحدا أم ألف رب |
|
أدين إذا تقسمت الأمور |
أدين أي : أطيع ، من دان أي : انقاد ، إذا تقسمت أي : تفرّقت :
__________________
(١) الأبيات من الوافر ، وهي في الأغاني ٣ / ١١٨.