ذاهب أي : هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لا الخبر لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الفاء على الخبر وعوضوا المبتدأ عن جملة الشرط لفظا (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا) يحتمل وجهين : أن تكون ما استفهامية وذا بمعنى الذي وما بعده صلته والمجموع خبر ما ، وأن تكون ما مع ذا اسما واحدا بمعنى أيّ شيء (أَرادَ اللهُ بِهذا) فهو منصوب المحل على المفعولية لأراد فما وذا كما في «الكشاف» في حكم ما وحده لو قلت ما أراد الله وكان من حقه ، وأمّا الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه وهو الذين آمنوا ويقابل قسيمه وهو يعلمون أنه الحق ، لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية عن عدم علمهم ليكون كالبرهان عليه والإرادة صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم ترجح أحد مقدوريه على الآخر وتخصصه بوجه دون وجه بخلاف القدرة فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقا وقوله تعالى : (مَثَلاً) نصب على الحال من اسم الإشارة والعامل فيه اسم الإشارة أو التمييز والمعنى أي فائدة في ذلك فقال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) بأن يكذبوا به (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) بأن يصدقوا به وكثرة كل واحد من القبيلين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس أي : لا بالنظر إلى مقابليهم فإنّ المهتدين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ ، ١٣] ويحتمل أن تكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف كما قال المتنبي في مدح علي بن يسار (١) :
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ |
|
كأنهم من طول ما التثموا مرد |
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا |
|
قليل إذا عدّوا كثيرا إذا شدوا |
وقال : إن الكرام كثير (أي : كرما) في البلاد وإن قلوا (أي : عددا) ، كما غيرهم (قل بضم القاف وكسرها أي : قليل كرما) وإن كثروا. أي : عددا (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي : الخارجين عن حدّ الإيمان بالكفر كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة ، ٦٧] وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال بالمثل وسبب ضلالتهم به أن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت به ضلالتهم فأنكروا المثل واستهزؤوا به ، وأمّا الفاسق في الشرع فهو الخارج عن أمر الله بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ولم تغلب طاعاته على معاصيه ولا يخرجه ذلك عن الإيمان إلا إذا اعتقد حل المعصية سواء أكانت كبيرة أم صغيرة قال تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات ، ٩] والمعتزلة جعلوا الفاسق قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض الأحكام.
ثم بين سبحانه وتعالى صفة الفاسقين بقوله : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) وهو إمّا المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده الدالة على توحيده ووجوب وجوده وصدق رسله وعليه يدلّ قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) [الأعراف ، ١٧٢] وإمّا المأخوذ بالرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره
__________________
(١) البيتان من الطويل ، وهما في ديوان المتنبي ١ / ٢٤٢ (طبعة دار الكتب العلمية).