(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً) أي : جهلا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت في ربيعة ومضر وبعض من العرب من غيرهم كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر ، وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك وسبب حصول هذه السفاهة هو قلة العلم بل عدمه بأنّ الله هو رازق أولادهم لا هم لأنّ الجهل كان غالبا عليهم قبل بعثة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولهذا سموا جاهلية ، وسبب هذا الخسران أنّ الولد نعمة عظيمة أنعم الله تعالى بها على الوالد فإذا تسبب في إزالة هذه النعمة وإبطالها فقد استوجب الذم وخسر في الدنيا والآخرة ، أما خسارته في الدنيا فقد سعى في نقص عدده وإزالة ما أنعم الله تعالى به عليه وأما خسارته في الآخرة فقد استوجب بذلك العذاب العظيم ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بتشديد التاء والباقون بالتخفيف (وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ) وتفضل به عليهم رحمة لهم من تلك الأنعام والغلات بغير شرع ولا نفع بوجه (افْتِراءً) أي : تعمدا للكذب (عَلَى اللهِ) وهذا أيضا من أعظم الجهالة لأنّ الجراءة على الله والكذب عليه من أعظم الذنوب والكبائر ولهذا قال تعالى : (قَدْ ضَلُّوا) أي : في فعلهم عن الحق والرشاد (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) أي : إلى طريق الحق والصواب في فعلهم.
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً) إلى قوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ.)
وروي عن مهدي بن ميمون أنه قال : سمعت أبا رجاء العطاردي يقول : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجرا أحسن منه ألقيناه وأخذنا الآخر وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به فإذا دخل شهر رجب قلنا : منصل الأسنة فلا ندع رمحا فيه حديدة ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه في رجب.
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ) أي : خلق (جَنَّاتٍ) أي : بساتين (مَعْرُوشاتٍ) أي : مبسوطات على الأرض كالبطيخ والقثاء (وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) بأن ارتفعت على ساق كالنخل وشجر الرمان ، وقال الضحاك : كلاهما في الكرم خاصة لأنّ منه ما يعرش بأن يبقى على وجه الأرض منبسطا ومنه ما لم يعرش بأن يرتفع على ساق ، وقيل : المعروشات ما عرشه الناس في البساتين ، واهتموا به فعرشوه من كرم وغيره ، وغير المعروشات هو ما أنبته الله تعالى في البراري والجبال من كرم أو شجر (وَ) أنشأ (النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) أي : ثمره وحبه في الهيئة والطعم منها الحلو والحامض والجيد والرديء ، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه ، أو للنخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه ، أو للجميع على تقدير كل ذلك أو كل واحد منها ، ومختلفا حال مقدرة لأنه لم يكن كذلك عند الإنشاء ، وقرأ نافع وابن كثير بجزم الكاف ، والباقون بالرفع (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً) أي : ورقهما (وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) أي : في طعمهما ، وقيل : متشابهين في المنظر مختلفين في الطعم.
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على عباده من خلق هذه الجنات المحتوية على أنواع الثمار ذكر ما هو المقصود الأصلي وهو الانتفاع بها فقال تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي : كل واحد من ذلك (إِذا أَثْمَرَ) أي : ولو قبل نضجه وهذا أمر إباحة وأما قوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فالأمر فيه للوجوب والآية مدنية والحق : هو الزكاة المفروضة والأمر بإتيانها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخره عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتنقيه ، وقيل : الآية مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة فالحق : ما كان يتصدق به على المساكين يوم الحصاد وكان