أي : عصينا وحبالنا فراعوا مع موسى عليهالسلام حسن الأدب حيث قدموه على أنفسهم في الإلقاء فعوضهم الله تعالى حيث تأدّبوا مع نبيه عليهالسلام أن منّ عليهم بالإيمان والهداية ولما راعوا الأدب أوّلا وأظهروا ما يدل على رغبتهم.
(قالَ) لهم موسى (أَلْقُوا) أنتم فقدّمهم على نفسه في الإلقاء.
فإن قيل : كيف جاز لنبيّ الله تعالى موسى عليهالسلام أن يأمر بالإلقاء وقد علم أنه سحر وفعل السحر حرام أو كفر؟ أجيب : عن ذلك بأجوبة : أحدها : أنّ معناه إن كنتم محقين في فعلكم فألقوا وإلا فلا تلقوا ، الثاني : أنّ القوم إنما جاؤوا لإلقاء تلك الحبال والعصيّ وعلم موسى عليهالسلام أنه لا بدّ وأن يفعلوا ذلك ووقع التحير في التقديم والتأخير فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراء لشأنهم وقلة مبالاته بهم وثقته بما وعده الله تعالى من التأييد والتقوية وأنّ المعجزة لا يغلبها سحر أبدا ، الثالث : أنه عليهالسلام كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر وإبطاله ما كان يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله فلهذا المعنى أمرهم بالإلقاء أولا (فَلَمَّا أَلْقَوْا) حبالهم وعصيهم (سَحَرُوا) أي : صرفوا (أَعْيُنَ النَّاسِ) عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل وهذا هو الفرق بين السحر الذي هو فعل البشر وبين معجزة الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام الذي هو فعل الله تعالى وذلك لأنّ السحر ليس فيه قلب الأعيان وإنما فيه صرف أعين الناس عن إدراك ذلك الشيء بسبب التمويهات والمعجزة قلب ذلك الشيء حقيقة كقلب عصا موسى عليهالسلام فإذا هي حية تسعى (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي : أرهبوهم والسين زائدة قاله المبرد ، وقال الزجاج : استدعوا رهبة الناس حتى رهبهم الناس وذلك بأن بعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب (وَجاؤُ) أي : السحرة (بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.)
روي أنّ السحرة قالوا : قد عملنا سحرا لا تطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لنا به وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا هي حيات تسعى كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا ويقال : إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا داخل تلك العصى زئبقا ليضيء وألقوها على الأرض فلما أثر حرّ الشمس فيها تحرّكت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات تتحرّك وتلتوي باختيارها ، ويقال : إن الأرض كان سعتها ميلا في ميل فصارت كلها حيات وأفاعي ففزع الناس من ذلك وأوجس في نفسه خيفة موسى وهذه الخيفة لم تحصل لموسى عليهالسلام لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة ويقين من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم وكان عالما بأنّ ما أتوا به على وجه المعارضة لمعجزته فهو من باب السحر والتخيل وذلك باطل ومع هذا الجزم يمتنع حصول الخوف لموسى عليهالسلام وإنما كان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات فخاف موسى عليهالسلام أن يتفرّقوا قبل ظهور معجزته وحجته فلذلك أوجس في نفسة خيفة موسى.
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها فصارت حية عظيمة قد سدّت الأفق قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالاسكندرية وقال : بلغ ذنب الحية من وراء البحر ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) بحذف إحدى التاءين من الأصل أي : تبتلع (ما يَأْفِكُونَ) أي : ما يزوّرونه من الإفك وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه.
روي أنها ابتلعت كل ما أتوا به من السحر فكانت تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى