لأن إفراغ الإناء هو صب ما فيه بالكلية فكأنهم طلبوا من الله تعالى كل الصبر لا بعضه ، الثانية : إنّ قولهم صبرا مذكور بصيغة التنكير وذلك يدل على تمام الكمال أي : صبرا تاما كاملا ، الثالثة : إن ذكر الصبر من قبلهم ومن أعمالهم ثم إنهم طلبوه من الله تعالى وذلك يدل على أنّ فعل العبد لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى وقضائه ، الرابعة : احتج القاضي بهذه الآية على أنّ الإيمان والإسلام واحد فقال : إنهم قالوا أوّلا : آمنا بآيات ربنا ، ثم قالوا ثانيا : وتوفنا مسلمين فوجب أن يكون ذلك الإيمان هو ذلك الإسلام وذلك يدل على أنّ أحدهما هو الآخر واعلم أنّ فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرّض لموسى لأنه كان كلما رأى موسى عليهالسلام خافه أشدّ الخوف فلهذا السبب لم يتعرّض له إلا أن القوم لم يعرفوا ذلك فقالوا له : (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ) كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى :
(وَقالَ الْمَلَأُ) أي : الأشراف (مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ) له (أَتَذَرُ) أي : تترك (مُوسى وَقَوْمَهُ) من بني إسرائيل (لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي : أرض مصر وأراد بالفساد فيها أنهم يأمرونهم بمخالفة فرعون وهو قولهم : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) أي : معبوداتك أي : فلا يعبدك ولا يعبدها ، قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة حسنة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمرهم بعبادتها ولذلك أخرج لهم السامري عجلا ، وقال السدي : كان فرعون اتخذ لقومه أصناما وكان يأمرهم بعبادتها وقال لهم : أنا ربكم ورب هذه الأصنام وذلك قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)
فإن قيل : إنّ فرعون إن لم يكن كامل العقل لم يجز في حكمة الله تعالى إرسال الرسل إليه وإن كان عاقلا لم يجز أن يعتقد في نفسه كونه خالق السموات والأرض لأنّ فساده معلوم بالضرورة؟ أجيب : بأن الأقرب أن يكون دهريا منكر الوجود الصانع وكان يقول : مدبر هذا السفلي هو الكواكب واتخذ أصناما على صورة الكواكب وكان يعبدها ويأمر بعبادتها وكان يقول في نفسه : إنه المطاع المخدوم في الأرض ولهذا قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قالَ) فرعون مجيبا لملئه حين قالوا له : أتذر موسى وقومه (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ) أي : المولودين (وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي : نتركهم أحياء كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكك على يديه. وقرأ نافع وابن كثير بفتح النون وسكون القاف وضم التاء مخففة والباقون بضم النون وفتح القاف وكسر التاء مشدّدة (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) أي : غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا ولا أثر لغلبة موسى لنا في هذه المناظرة فأعادوا عليهم القتل فشكت بنو إسرائيل لموسى فأمرهم بالصبر كما قال تعالى :
(قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي : بني إسرائيل (اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) أي : استعينوا بالله على فرعون وقومه فيما نزل بكم من البلاء فإن الله تعالى هو الكافي لكم واصبروا على ما نالكم من المكاره في أنفسكم وأبنائكم (إِنَّ الْأَرْضَ) أي : أرض مصر وإن كانت الأرض كلها (لِلَّهِ) تعالى لأنّ الكلام فيها (يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وفي هذا تسلية لهم وتقريرا للأمر بالاستعانة بالله عزوجل والتثبت في الأمر وقوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ) أي : المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) لأنّ الله تعالى وعدهم بالنصر وتذكير لما وعدهم به من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له ولما سمع بنو إسرائيل ما قال فرعون من توعده لهم بالقتل مرّة ثانية.
(قالُوا) لموسى (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا) أي : بالرسالة وذلك أن بني إسرائيل كانوا مستضعفين في يد فرعون وقومه وكان يأخذ منهم الجزية وكان يستعملهم في الأعمال الشاقة إلى