ولنخلين بني إسرائيل ليذهبوا حيث شاؤوا.
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ) أي : بدعاء موسى عليهالسلام (إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ) أي : إلى حدّ من الزمان هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدّم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليمّ وقوله تعالى : (إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) جواب لما أي : فلما كشفنا عنهم فاجؤا النكث من غير توقف وتأمّل فيه.
فإن قيل : إنّ الله تعالى علم من حال هؤلاء أنهم لا يؤمنون بتلك المعجزات فما الفائدة في تواليها عليهم وإظهار الكثير منها؟ أجيب : بأنّ الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عما يفعل قال تعالى :
(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي : كافأناهم على سوء صنيعهم وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب لأنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرّات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم وبلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم كما قال تعالى : (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) أي : في البحر الذي لا يدرك قعره ، وقيل : هو لجة البحر ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لأنّ المنتفعين به يقصدونه قال الأزهريّ : ويقع اليمّ على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى : (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ) [طه ، ٣٩] والمراد نيل مصر وهو عذب ، وإغراقهم (بِأَنَّهُمْ) أي : بسبب أنهم (كَذَّبُوا بِآياتِنا) الدالة على وحدانيتنا وصدق رسولنا (وَكانُوا عَنْها) أي : الآيات (غافِلِينَ) أي : لا يتدبرونها ، وقيل : الضمير في عنها يرجع للنقمة التي دل عليها قوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا) أي : وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين.
فإن قيل : الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة؟ أجيب : بأنّ المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها.
فإن قيل : أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاص كثيرة فكيف يكون الانتقام بهذين دون غيرهما؟ أجيب : بأنه ليس في بيان أنه تعالى انتقم منهم بهذين دلالة على نفي ما عداهما. قال الرازي : والآية تدل على أنّ الواجب في الآيات النظر فيها فلذلك ذمّهم بأنهم غفلوا عنها وذلك يدل على أنّ التقليد طريق مذموم ولما بين تعالى إهلاك القوم بالغرق على وجه العقوبة بين تعالى ما فعله بالمؤمنين من الخيرات وهو أنه تعالى أورثهم أرضهم وديارهم فقال تعالى :
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) أي : بالاستعباد وذبح الأبناء وأخذ الجزية والأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل (مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) أي : أرض الشأم وهي من الفرات إلى بحر سرف الموضع الذي خرجوا منه من البحر وغرق فيه فرعون وآله كما نقله البقاعي في المائدة عن التوراة ، وقيل : المراد جملة الأرض لأنه خرج من جملة بني إسرائيل داود وسليمان عليهماالسلام وقد ملكا الأرض ويدل للأوّل قوله تعالى : (الَّتِي بارَكْنا فِيها) أي : بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشأم (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : مضت عليهم واستمرّت من قولهم تم عليه الأمر إذا قضي وهي قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [القصص ، ٥] الخ .. والحسنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ومعنى تمت عليهم إنجاز الوعيد الذي تقدّ بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض وإنما كان الإنجاز