يبكي ، قال عكرمة : فقلت جعلني الله تعالى فداك ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه ، قالوا : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ ،) وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم ، قال : فأعجبه قولي ورضي به وأمر لي ببردين فألبسنيهما ، وقال نجت الساكتة ، وقال عمار بن زيان : نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم ، والذين قالوا معذرة ، وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان وهذا قول الحسن.
فإن قيل : إنّ ترك الوعظ معصية والنهي أيضا عنه معصية فوجب دخول هؤلاء التاركين للوعظ الناهين عنه تحت قوله تعالى : (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ) ولهذا قال ابن زيد : نجت الناهية وهلكت الفرقتان. أجيب : بأنّ هذا غير لازم لأنّ النهي عن المنكر إنما يجب على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ) قال ابن عباس : أبوا أن يرجعوا عن المعصية والعتو عبارة عن الإباء والعصيان أي : فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه وتمرّدوا في العصيان من اعتدائهم في السبت واستحلالهم ما حرّم الله تعالى عليهم من صيد السمك في يوم السبت وأكله (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) أي : صاغرين فكانوها كقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) اردناه [النحل ، ٤٠] وهذا يقتضي أنّ الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للأولى.
وروي أنّ اليهود أمروا باليوم الذي أمرنا به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا به وحرّم الله عليهم فيه الصيد ، وأمروا بتعظيمه فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا كأنها المخاض لا يرى الماء من كثرتها ، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم جاءهم إبليس فقال لهم : إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها ، وتأخذونها يوم الأحد ، وأخذ رجل منهم حوتا وربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطلع في تنوره فقال : إني أرى الله سيعذبك فلما لم يره عذب أخذ في السبت القابل حوتين ، فلما رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم صادوا وأكلوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من سبعين ألفا ، فصار أهل القرية أثلاثا ثلثا نهوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا ، وثلثا قالوا : لم تعظون قوما؟ وثلثا هم أصحاب الخطيئة ، فلما لم ينتهوا قال المسلمون : إنا لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ، ولعنهم داود عليهالسلام فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إنّ للناس شأنا فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القرود أنسباءها من الإنس والإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه ويبكي فيقول : ألم ننهك فيقول برأسه بلى ، وقيل : صار الشباب قردة والشيوخ خنازير. واختلفوا في أنّ الذين مسخوا هل بقوا قردة وهل هذه القردة من نسلهم أو هلكوا وانقطع نسلهم؟ لا دلالة في الآية على شيء من ذلك ، وعن الحسن : أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة ، وعن جابر : بين العبد وبين رزقه حجاب فإن صبر خرج إليه وإلا هتك الحجاب ولم ينل إلا ما قدّر له.
قال الزمخشريّ : هاه وايم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ، ولكن الله تعالى جعل موعدا والساعة أدهى وأمرّ وقوله تعالى :