مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي : متتابعين يردف بعضهم بعضا ، وقرأ نافع بفتح الدال ، وقيل : بالفتح والكسر ، والباقون بالكسر ، وعدهم بالألف أوّلا ، ثم صارت ثلاثة آلاف ، ثم خمسة آلاف كما في آل عمران ، فقيل : نزل جبريل عليهالسلام في خمسمائة ملك على الميمنة ، وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، وميكائيل عليهالسلام على الميسرة ، وفيها عليّ رضي الله تعالى عنه في صور الرجال عليهم عمائم بيض وثياب بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم ، فقاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين.
وروي أنّ أبا جهل قال لابن مسعود من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال : من الملائكة ، فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم.
وروي أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتدّ في طلب رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه ، فنظر إلى المشرك وقد خرّ مستلقيا وشق وجهه ، فحدّث الأنصاري رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال : «صدقت ذاك من مدد السماء الثالثة ، فقتلوا يوم بدر سبعين وأسروا سبعين» (١) ، وعن أبي داود المازنيّ تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.
وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : «قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف».
وقيل : إنهم لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم ، فإنّ جبريل عليهالسلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط ، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح عليهالسلام بصيحة واحدة ، وقيل : يدلّ على هذا قوله تعالى :
(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) لكم أي : وما جعل الإرداف بالملائكة إلا بشرى لكم (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فيزول ما بها من الوجل لقلتكم وذلتكم ، والصحيح أنهم قاتلوا يوم بدر ، ولم يقاتلوا فيما سواه لما تقدّم (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : لا من عند غيره ، وأما إمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها فهي وسايط لا تأثير لها ، فلا تحسبوا أن النصر منها ولا تيأسوا منه بفقدها ، وفي ذلك تنبيه على أنّ الواجب على المسلم أن لا يتوكل إلا على الله تعالى في جميع أحواله ، ولا يثق بغيره ، فإنّ الله تعالى بيده النصر والإعانة. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي : إنه تعالى قويّ منيع لا يقهره شيء ولا يغلبه غالب بل هو يقهر كلّ شيء ويغلبه (حَكِيمٌ) في تدبيره ونصره ينصر من يشاء ويخذل من يشاء من عباده.
(إِذْ) أي : واذكر إذ (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) وهو النوم الخفيف (أَمَنَةً) أي : أمنا مما حصل لكم من الخوف من عدوّكم (مِنْهُ) أي : من الله تعالى ؛ لأنهم لما خافوا على أنفسهم لكثرة عددهم وعددهم وقلة المسلمين وقلة عددهم ، وعطشوا عطشا شديدا ألقى الله عليهم النوم حتى حصلت لهم الراحة وزال عنهم الكلال والعطش ، وتمكنوا من قتال عدوّهم كان ذلك النوم نعمة في حقهم ؛ لأنه كان خفيفا بحيث لو قصدهم العدوّ لعرفوا وصوله إليهم وقدروا على دفعه عنهم.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : النعاس في القتال أمنة من الله تعالى ، وفي الصلاة
__________________
(١) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ١٧٦٣.