فإن قيل : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله تعالى نعمته عليهم ، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة؟ أجيب : بأنه تعالى كما يغير الحال المرضية إلى المسخوطة يغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول صلىاللهعليهوسلم كفرة عبدة أوثان فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت عليه فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يقولون (عَلِيمٌ) بما يفعلون.
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) أي : أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالحجارة وبعضهم بالريح وبعضهم بالمسخ ، كذلك أهلكنا كفار قريش بالسيف (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) أي : هو وقومه.
فإن قيل : ما فائدة تكرير هذه الآية مرّة ثانية؟ أجيب : بأنّ فيها فوائد :
منها : إنّ الكلام الثاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأوّل ؛ لأن الكلام الأوّل فيه ذكر أخذهم ، وفي الثاني ذكر إغراقهم وذلك تفصيل.
ومنها : أنه ذكر في الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله ، وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم ففي الآية الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها وكفرهم بها.
ومنها : أنّ تكرير هذه القصة للتأكيد ، ولما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله : (بِآياتِ رَبِّهِمْ) وبيان ما أخذ به آل فرعون.
ومنها : أنّ الأولى لسببية الكفر ، والثانية لسببية التغيير ، والنقمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم (وَكُلٌ) أي : من الفرق المكذبة أو من غرقى القبط وقتلى قريش (كانُوا ظالِمِينَ) أنفسهم بالكفر والمعاصي وغيرهم بالإضلال واضعين الآيات في غير موضعها وهم يظنون بأنفسهم العدل ، ولما وصف تعالى كل الكفار بقوله تعالى : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أفرد بعضهم بمزية في الشر والفساد فقال :
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) في حكمه وعلمه (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : أصرّوا على الكفر (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يتوقع منهم إيمان وقوله تعالى :
(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) بدل البعض من الذين كفروا ، وهم يهود قريظة عاهدهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن لا يمالئوا أي : يساعدوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح ، وقالوا : نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوا معهم يوم الخندق وانطلق كعب بن الأشرف إلى أهل مكة فحالفهم ، وإنما جعلهم الله تعالى شر الدواب ؛ لأنّ شر الناس الكفار ، وشر الكفار المصرون منهم وشر المصرين الناكثون العهود (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) الله في حذرهم.
(فَإِمَّا) فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة (تَثْقَفَنَّهُمْ) أي : تجدن هؤلاء الذين نقضوا العهد وظفرت بهم (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ) قال ابن عباس : فنكل (بِهِمْ) أي : بهؤلاء الذين نقضوا العهد (مَنْ خَلْفَهُمْ) أي : من وراءهم من أهل مكة واليمن وغيرهما ، فيخافون أن تفعل بهم كفعل هؤلاء ، وقال عطاء : أثخن فيهم القتل حتى يخافك غيرهم (لَعَلَّهُمْ) أي : الذين خلفهم (يَذَّكَّرُونَ) أي : يتعظون بهم.
(وَإِمَّا تَخافَنَ) أي : تعلمن يا محمد (مِنْ قَوْمٍ) عاهدتهم (خِيانَةً) في العهد بإمارات تلوح