تعالى أغرق قوم نوح فيه قاله الثعلبي ، وهذا الترتيب الذي ذكرناه في عد الأشهر الحرم وجعلها من سنتين هو الصواب كما قاله النوويّ في شرح مسلم ويؤيده قوله صلىاللهعليهوسلم في خطبته في حجة الوداع : «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (١) وعدها الكوفيون من سنة واحدة فقالوا : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ، قال ابن دحية : وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا نذر صيامها مرتبة فعلى الأوّل يبتدىء بذي القعدة وعلى الثاني بالمحرم ومعنى الحديث أنّ الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة ومعنى الحرم أنّ المعصية فيها أشدّ عقابا والطاعة فيها أكثر ثوابا والعرب كانوا يعظمونها جدّا حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرّض له.
فإن قيل : أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة فما السبب في هذا التمييز؟ أجيب : بأنّ هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلع الرسالة وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة (ذلِكَ) أي : تحريم الأشهر الأربعة (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : المستقيم وهو دين إبراهيم وإسماعيل عليهماالسلام والعرب ورثوه منهما ، وقيل : المراد بالدين الحساب يقال : الكيس من دان نفسه أي : حاسبها ، والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على هذا التقدير ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدد المستوي وقال الحسن : ذلك الدين القيم الذي لا يبدل ولا يغير فالقيم هنا بمعنى القائم الدائم الذي لا يزول وهو الدين الذي فطر الناس عليه (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) أي : الأشهر الحرم (أَنْفُسَكُمْ) بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزرا لأنّ الله تعالى خص هذه الشهور بمزيد احترام في آية أخرى وهو قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة ، ١٩٧] فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضا إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيها على زيادتها في الشرف وقال ابن عباس : إنّ المراد فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقا في جميع العمر قال الفراء : والأوّل أولى لأنّ العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة فيهنّ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها : والأصل فيه أنّ جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة كما قال حسان (٢) :
لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحى |
|
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما |
__________________
(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق حديث ٣١٩٧ ، ومسلم في القسامة حديث ١٦٧٩ ، وأبو داود في المناسك حديث ١٩٤٧.
(٢) البيت من الطويل ، وهو في ديوان حسان بن ثابت ص ١٣١ ، وأسرار العربية ص ٣٥٦ ، وخزانة الأدب ٨ / ١٠٦ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٧١ ، والكتاب ٣ / ٥٧٨ ، ولسان العرب (جدا) ، والمحتسب ١ / ١٨٧.