منهم. قال ابن الأنباري : يجب أن يتهم العالم نفسه ويستشعر التواضع لربه تعالى ، ولا يطمع نفسه في العلية في العلوم ؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم فوقه.
ولما حصل لإخوة يوسف من إخراج الصواع من رحل بنيامين ما حصل ، فكأنه قيل : فما كان فعلهم عند ذلك؟. فقيل : (قالُوا) تسلية لأنفسهم ودفعا للعار عن خاصتهم (إِنْ يَسْرِقْ) ولم يجزموا بسرقته لعلمهم بأمانته وظنهم أنّ الصواع دس في رحله وهو لا يشعر كما دست بضاعتهم في رحالهم ، وكان قد قال لهم ذلك (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ،) أي : يوسف وكان غرضهم من ذلك إنا لسنا على طريقته ولا على سيرته ، وهو وأخوه مختصان بهذه الطريقة ؛ لأنهما من أمّ أخرى ، واختلفوا في التي نسبوها إلى يوسف عليهالسلام على أقوال ، فقال سفيان بن عيينة : أخذ دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا. وقال مجاهد : جاءه سائل فأخذ بيضة من البيت فناولها للسائل ، وقال وهب : كان يخبىء الطعام من مائدة يعقوب للفقراء ، وقال سعيد بن جبير : كان جدّه أبو أمّه كافرا يعبد الوثن وأمرته أمّه أن يسرق تلك الأوثان ويكسرها ، فلعله يترك عبادة الأوثان ففعل ذلك فهذا هو السرقة. وقال محمد بن إسحاق : إنّ يوسف عليهالسلام كان عند عمته ابنة إسحاق ، وكانت تحبه حبا شديدا ، فأرادت أن تمسكه عند نفسها وكان قد بقي معها منطقة لأبيها إسحاق عليهالسلام ، وكانوا يتبركون بها ، فشدّتها على وسط يوسف عليهالسلام من تحت ثيابه وهو صغير لا يشعر ، ثم قالت : إنه سرقها ، وكان علمهم أنّ من سرق يسترق فقال يعقوب عليهالسلام : إن كان قد فعل ذلك فهو سلّم لك فأمسكته عندها حتى ماتت ، فتوصلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها.
قال ابن الأنباري : وليس في هذه الأفعال كلها سرقة ، ولكنها تشبهها فعيروه بها عند الغضب ، وقيل : إنهم كذبوا عليه وبهتوه ، وكانت قلوبهم مملوءة من الغضب على يوسف بعد تلك الوقائع وبعد انقضاء المدّة الطويلة. قال الرازي : وهذه الواقعة تدل على أنّ قلب الحاسد لا يطمئن من الغل البتة. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها ،) أي : يظهرها (لَهُمْ) والضمير للكلمة التي هي قوله : (قالَ ،) أي : في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ،) أي : من يوسف وأخيه ، أي : لسرقتكم أخاكم من أبيكم وظلمكم له ، وقيل : الضمير يرجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه ، وهي قولهم : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وعلى هذا يكون المعنى : فأسر يوسف جواب الكلمة التي قالوها في حقه (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِما تَصِفُونَ ،) أي : تقولون ، وأنه ليس كما قلتم ، قال أصحاب الأخبار والسير : إنّ يوسف عليهالسلام لما استخرج الصاع من رحل بنيامين نقره وأدناه إلى أذنه ثم قال : إنّ صاعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلا لأب واحد وإنكم انطلقتم بأخ لكم من أبيكم فبعتموه فقال بنيامين : أيها الملك إنّ صاعك يخبرك من جعله في رحلي ، ثم نقره وأدناه من أذنه ، فقال : إنّ صاعي غضبان وهو يقول : كيف تسألوني عن صاحبي وقد رؤيت مع من كنت؟ قالوا : فغضب روبيل لذلك ، وكانوا أولاد يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا ، وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء ، وكان إذا صاح ألقت كل حامل حملها إذا سمعت صوته ، وكان مع هذا إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليهالسلام يسكن غضبه ، وكان أقوى الإخوة وأشدّهم ، وروي أنه قال لإخوته : كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا : عشرة. فقال : اكفوني أنتم الأسواق ، وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق ، ودخلوا على يوسف فقال روبيل : لتردّن علينا أخانا أو لأصيحنّ