فإن قيل : الزوجان لا بدّ وأن يكونا اثنين فما الفائدة في اثنين؟ أجيب : بأنه قيل : إنه تعالى أوّل ما خلق العالم وخلق فيه الأشجار خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط فلو قال : خلق زوجين لم يعلم أنّ المراد النوع أو الشخص ، فلما قال : اثنين علم أنه تعالى أوّل ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد ، فكما أنّ الناس وإن كان فيهم الآن كثرة فابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص آدم وحوّاء ، فكذا القول في جميع الأشجار والزروع.
الخامس منها قوله تعالى : (يُغْشِي ،) أي : يغطي (اللَّيْلَ) بظلمته (النَّهارَ ،) أي : والنهار الليل بضوئه فيعتدل فعلهما على ما قدّره الله تعالى لهما في السير من الزيادة والنقصان ، وذلك من الحكم النافعة في الدين والدنيا الظاهرة لكل ذي عقل أنها تدبيره بفعله واختياره وقهره واقتداره. وقرأ شعبة وحمزة والكسائي بفتح الغين وتشديد الشين ، والباقون بسكون الغين وتخفيف الشين. ولما ذكر تعالى هذه الدلائل النيرة والقواطع القاهرة جمعها وناطها بالفكر فقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ ،) أي : الذي وقع التحدّث عنه من الآيات (لَآياتٍ ،) أي : دلالات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ،) أي : يجتهدون في الفكر فيستدلون بالصنعة على الصانع ، وبالسبب على المسبب والتفكر والتدبر تصرف القلب في طلب معاني الأشياء.
ثم إنه تعالى ذكر دليلا ظاهرا جدّا بقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ ،) أي : التي أنتم سكانها تشاهدون ما فيها مشاهدة لا تقبل الشك (قِطَعٌ ،) أي : بقاع مختلفة (مُتَجاوِراتٌ ،) أي : متقاربات يقرب بعضها من بعض واحدة طيبة ، والأخرى سبخة لا تنبت وأخرى صالحة للزرع لا للشجر ، وأخرى بالعكس ، وأخرى قليلة الريع ، وأخرى كثيرته مع انتظام الكل في الأرضية ، وهو من دلائل قدرته تعالى (وَجَنَّاتٌ ،) أي : بساتين فيها أنواع الأشجار من نخيل وأعناب وغير ذلك كما قال تعالى : (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) جمع صنو وهي النخلات يجمعها أصل واحد وتتشعب فروعها ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم في عمه العباس : «عمّ الرجل صنو أبيه» (١) يعني أنهما من أصل واحد (وَغَيْرُ صِنْوانٍ ،) أي : متفرقات مختلفة الأصول وسمي البستان جنة ؛ لأنه يستر بأشجاره الأرض.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص برفع العين واللام والنون الثانية من صنوان والراء من غير مع التنوين في العين واللام والنون ، وعدم التنوين في الراء ، والباقون بالخفض في الأربعة وعدم التنوين في الراء. ولما كان الماء بمنزلة الأب والأرض بمنزلة الأم وكان الاختلاف مع اتحاد الأب والأم أعجب وأدل على الإسناد إلى الواحد المسبب لا إلى شيء من الأسباب قال : تسقى قراءة ابن عامر وعاصم بالياء على التذكير ، أي : المذكور ، وقراءة الباقين بالتاء على التأنيث ، أي : الجنات وما فيها (بِماءٍ واحِدٍ) فتخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ، ولا تتقدّم ، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام ، وقيل في حدّه : جوهر سيال به قوام الأرواح (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ،) أي : في الطعم ما بين حلو وحامض وغير ذلك. وفي الشكل والرائحة والمنفعة وغير ذلك ، وذلك أيضا مما يدل على القادر الحكيم ، فإنّ اختلافها مع اتحاد
__________________
(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٩٨٣ ، وأبو داود في الزكاة حديث ١٦٢٣ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٧٥٨.