الأصول والأسباب لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار ، قال مجاهد : وذلك كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد. وقال الحسن : هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم وكانت الأرض طينة واحدة في يد ، أي : في قدرة الرحمن فسطحها فصارت قطعا متجاورات ، فينزل عليها الماء من السماء ، فتخرج هذه زهرتها وشجرها وثمرها ونباتها ، وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد ، وكذلك الناس خلقوا من آدم ، فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع ، وتقسو قلوب قوم فتلهو ولا تسمع.
وقال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء ، ٨٢] وقرأ حمزة والكسائي بالياء ليطابق قوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) والباقون بالنون وقرأ نافع وابن كثير بسكون الكاف ، والباقون بالرفع (إِنَّ فِي ذلِكَ ،) أي : الأمر العظيم الذي ذكرناه (لَآياتٍ ،) أي : دلالات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ،) أي : يستعملون عقولهم بالتدبر والتفكر في الآيات الدالة على وحدانيته تعالى.
ولما ذكر تعالى الدلائل القاهرة الدالة على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدل على المعاد بقوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ ،) أي : يا أكرم الخلق من تكذيب الكفار لك بعد أن كنت تعرف عندهم بالصادق الأمين (فَعَجَبٌ ،) أي : فحقيق أن يتعجب منه (قَوْلُهُمْ ،) أي : منكري البعث (أَإِذا كُنَّا تُراباً ،) أي : بعد الموت (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ،) أي : خلق بعد الموت كما كنا قبله ، ولم يعلموا أنّ القادر على إنشاء الخلق وما تقدّم على غير مثال قادر على إعادتهم. وقيل : وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرّهم ولا ينفعهم آلهة يعبدونها مع إقرارهم بأنّ الله تعالى خلق السموات ، والأرض ، وهو يضر وينفع ، وقد رأوا قدرة الله تعالى وما ضرب لهم به الأمثال فعجب قولهم ذلك ، والعجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة ، وقال المتكلمون : العجب هو الذي لا يعرف سببه ، وذلك في حق الله تعالى محال ؛ لأنه تعالى علام الغيوب لا تخفى عليه خافية ، وقرأ أبو عمرو وخلاد والكسائي بإدغام الباء في الفاء ، والباقون بالإظهار.
تنبيه : هنا آيتان في كل منهما همزتان ، فقرأ قالون بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الهمزة الثانية ، ويدخل بينهما ألفا على الاستفهام ، وفي الآية الثانية بهمزة مكسورة وبعدها نون مشددة على الخبر ، وورش كذلك إلا أنه لا يدخل بين الهمزتين في أئذا ألفا وينقل في الثاني على أصله ، وابن كثير يقرأ بالاستفهام فيهما من غير إدخال ألف بين الهمزتين مع تحقيق الأولى وتسهيل الثانية فيهما ، وأبو عمرو كذلك مع إدخال ألف بينهما ، وابن عامر في الأول بهمزة مكسورة بعدها ذال مفتوحة على الخبر ، وفي الثاني بهمزة مفتوحة محققة وهمزة مكسورة محققة على الاستفهام ، وأدخل هشام بينهما ألفا بخلاف عنه ، والباقون بهمزتين محققتين الأولى مفتوحة ، والثانية مكسورة ولا ألف بينهما في الموضعين.
فائدة : جميع ما في القرآن من ذلك أحد عشر موضعا في تسع سور ، والأحد عشر مكرّرة فتصير اثنين وعشرين ، في هذه السورة موضع ، والثاني والثالث في سورة الإسراء ، والرابع في المؤمنون ، والخامس في النمل ، والسادس في العنكبوت ، والسابع في السجدة ، والثامن والتاسع في الصافات ، والعاشر في الواقعة ، والحادي عشر في النازعات. وأذكر إن شاء الله تعالى في كل سورة من السور المذكورة مذهبهم في محله.