ولا شيء معه ثم خلق اللوح وأثبت فيه أحوال جميع الخلق إلى قيام الساعة» (١).
والقول الثاني : أنّ أمّ الكتاب أصله الذي لا يغير منه شيء وهو الذي كتب في الأزل. وقال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان كتاب سوى أمّ الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وعنده أمّ الكتاب لا يغير منه شيء ، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق. وعن ابن عباس قال : إنّ لله لوحا محفوظا مسيرته خمسمائة عام من درّة بيضاء له دفتان من ياقوتة لله فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب. وسأل ابن عباس كعبا عن أمّ الكتاب فقال : علم الله ما هو خالق وما خلقه.
ولما كان من مقترحاتهم وطلباتهم استهزاء استعجال السيئة مما توعدوا به وكانت النفس ربما تمنت وقوع ذلك البعض وإثباته ليؤمن به غيره تقريبا لفصل النزاع قال تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ) يا محمد وأكده بتأكيد للإعلام بأنه لا حرج عليه في ضلال من ضل بعد إبلاغه (بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ،) أي : من العذاب وأنت حيّ مما تريد ، أو تريد أصحابك قبل وفاتك فذلك شافيك من أعدائك ، والوعد الخبر عن خير مضمون ، والوعيد الخبر عن شر مضمون والمعنى ههنا عليه وسماه وعدا لتنزيلهم إياه في طلب نزوله منزلة الوعد (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ،) أي : قبل أن نرينك ذلك فلا لوم عليك ولا عتب (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ،) أي : ليس عليك إلا تبليغ الرسالة إليهم ، وليس عليك أن تجازيهم ولا أن تأتيهم بالمقترحات ، والبلاغ اسم أقيم مقام التبليغ ، وأمّا فيه إدغام نون أن الشرطية في ما الزائدة. (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ ،) أي : علينا أن نحاسبهم يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم ، فلا تحتفل بإعراضهم ولا تستعجل بعذابهم.
تنبيه : قال أبو حيان : هنا شرطان ؛ لأنّ المعطوف على الشرط شرط ، فيقدّر لكل شرط ، ما يناسب أن يكون جزاء مرتبا عليه والتقدير : وإمّا نرينك بعض الذي نعدهم ، فذلك شافيك من أعدائك ، وإمّا نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.
ولما وعد الله تعالى نبيه محمدا صلىاللهعليهوسلم بأن يريه بعض ما يعده أو يتوفاه قبل ذلك بين تعالى أنّ آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت وقويت بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا ،) أي : كفار مكة (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي : نقصد أرض هؤلاء الكفرة (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بما يفتح الله تعالى على المسلمين من ديار الشرك أرضا بعد أرض حوالي أرضهم ، هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة. وقال مجاهد : هو خراب الأرض وقبض أهلها. وعن عكرمة قال : هو قبض الناس. وعن الشعبي مثله ، وعطاء وجماعة نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء ، ويؤيد هذا ما رواه عمرو بن العاص أنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (٢). وقال الحسن : قال عبد الله بن مسعود : عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله. وقال عليّ : إنما مثل الفقهاء كمثل الأنف إذا قطعت لم تعد. وقال سليمان : لا يزال
__________________
(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤١٨ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٣١.
(٢) أخرجه البخاري في العلم باب ٣٤ ، ومسلم في العلم حديث ١٣ ، والترمذي في العلم باب ٥ ، وابن ماجه في المقدمة باب ٨ ، والدارمي في المقدمة باب ٢٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٢ ، ١٩٠.