ثقيف أتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقالوا نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال : وما هنّ قالوا أن لا نجبى في الصلاة بفتح الجيم والباء الموحدة المشدّدة ، أي : لا ننحني فيها ولا نكسر أصنامنا إلا بأيدينا ، وأن لا تمنعنا من اللات والعزى سنة من غير أن نعبدها فقال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود» (١). وأمّا أن تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأمّا الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها ، وفي رواية وحرّم وادينا كما حرّمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يجبهم فقالوا : يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبيّ صلىاللهعليهوسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فصاح عليهم عمر وقال : أما ترون رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أمسك عن الكلام كراهة لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية».
وقال سعيد بن جبير : كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يستلم الحجر الأسود فمنعه قريش وقالوا : لا ندعك حتى تلمّ بآلهتنا وتمسها فحدّث صلىاللهعليهوسلم نفسه ما عليّ أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها لكاره بعد أن يدعوني حتى استلم الحجر فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي أنّ قريشا قالوا له : اجعل آية رحمة آية عذاب وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ. عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا (لِتَفْتَرِيَ) أي : لتقول (عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي : ما لم نقله (وَإِذاً) أي : لو ملت إلى ما دعوك إليه (لَاتَّخَذُوكَ) أي : بغاية الرغبة (خَلِيلاً) أي : لوالوك وصافوك وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراض بشركهم ومن يكن خليل الكفار لم يكن خليل الله تعالى ، ولكنك أبصرت رشدك فلزمت أمر الله واستمروا على عماهم إتماما لتفضيلنا لك على كل مخلوق.
(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) أي : على الحق بعصمتنا إياك (لَقَدْ كِدْتَ) أي : قاربت (تَرْكَنُ) أي : تميل (إِلَيْهِمْ) أي : إلى الأعداء (شَيْئاً) أي : ركونا (قَلِيلاً) لمحبتك في هدايتهم وحرصك على منفعتهم ولكنا عصمناك فمنعناك أن تقرب من الركون فضلا من أن تركن إليهم لأنّ كلمة لو لا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره تقول لو لا زيد لهلك عمرو ومعناه أنّ وجود زيد منع من حصول الهلاك لعمرو فكذلك ههنا قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) معناه لو لا حصل تثبيت الله لمحمد صلىاللهعليهوسلم فكان تثبيت الله مانعا من حصول قرب الركون وهذا صريح في أنه عليه الصلاة والسّلام ما همّ بإجابتهم مع قوّة الداعي إليها ودليل على أنّ العصمة بتوفيق الله وحفظه.
(إِذاً) أي : لو قاربت الركون الموصوف إليهم (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ) عذاب (الْحَياةِ وَضِعْفَ) عذاب (الْمَماتِ) أي : مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة وكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت كما يضاف موصوفها وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وضعف الممات عذاب القبر ، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعمة الله تعالى في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر ونظيره قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب ، ٣٠] وقيل الضعف من أسماء العذاب (ثُمَ
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الخراج حديث ٣٠٢٦ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٢ / ٤٤٥ ، والطبراني في المعجم الكبير ٩ / ٤٥ ، والزيلعي في نصب الراية ٤ / ١٧٠.