في رواية عطاء عميا عن النظر ، أي : عما جعله الله تعالى لأوليائه وبكما عن مخاطبة الله تعالى ومخاطبة الملائكة المقرّبين صما عن ثناء الله تعالى عليهم. الثالث : قال مقاتل : إنه حين يقال لهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون يصيرون عميا بكما صما ، أمّا قبل ذلك فهم يرون ويسمعون وينطقون. الرابع : أنهم يكونون رائين سامعين ناطقين في الموقف ولو لا ذلك لما قدروا أن يطالعوا كتبهم ولا أن يسمعوا لإلزام حجة الله تعالى عليهم إلا أنهم إذا أخذوا يذهبون من الموقف إلى النار جعلهم الله تعالى عميا بكما صما. قال الرازي : والجواب الأول أولى لأنّ الآيات السابقة تدل على أنهم في النار يبصرون ويسمعون ويصيحون. ثم بيّن تعالى مكانهم بقوله عزوجل : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) تسعر عليهم (كُلَّما خَبَتْ) أي : أخذ لهبها في السكون عند أكلها لحومهم وجلودهم (زِدْناهُمْ سَعِيراً) توقد بإعادة الجلود واللحوم ملتهبة مسعرة كانهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله تعالى بأن لا يزالوا على الإعادة والإفناء. وقرأ نافع وابن كثير وعاصم وابن عامر بإظهار تاء التأنيث عند الزاي وأدغمها الباقون.
ثم بين علة تعذيبهم ليرجع منهم من قضى بسعادته بقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : العذاب العظيم (جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ) أي : أهل الضلالة (كَفَرُوا بِآياتِنا) القرآنية وغيرها وكانوا كل يوم يزدادون كفرا وهم عازمون على الدوام على ذلك ما بقوا (وَقالُوا) إنكارا لقدرتنا (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) ممزقين في الأرض ثم كرّروا الإنكار كأنهم على ثقة من أمرهم هذا الذي بطلانه أوضح من الشمس بقولهم (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) فنحن نريهم جزاء على هذا الإنكار المكرّر الخلق الجديد في جلودهم ولحومهم مكرّرا كل لحظة ، قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء ، ٥٦].
ثم أتبعه بقاطع في بيان جهلهم بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : يعلموا بعيون بصائرهم على ما هو كالرؤية بعيون أبصارهم لما قام عليه من الدلائل بصحته من الشواهد الجلائل (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) جمعها لما دل على ذلك من الحسن ، ولما لم تكن الأرض مثل ذلك أفردها مريدا الجنس الصالح للجميع بقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ) على كبر أجرامها وعظم أحكامها ، وقوله تعالى : (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) فيه قولان الأوّل : المعنى قادر على أن يخلقهم ثانيا ، فعبر عن خلقهم ثانيا بلفظة المثل كما يقوله المتكلمون أنّ الإعادة مثل الإبتداء. الثاني : أنّ المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه ويقرّون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة وعلى هذا فهو كقوله تعالى : (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [إبراهيم ، ١٩]. وقوله تعالى : (قَوْماً غَيْرَكُمْ) [التوبة ، ٣٩]. قال الواحدي : والقول هو الأوّل لأنه أشبه بما قبله.
ولما بيّن الله تعالى بالدليل المذكور أنّ البعث والقيام أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه ببيان أن لوقوعه في الوجود وقتا معلوما عند الله وهو قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ) أي : لا شك (فِيهِ) وهو الموت أو القيامة (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي : بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والجحود.
ولما قال الكفار : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم ويتسع عيشهم ، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم بقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهؤلاء المتعنتين (لَوْ أَنْتُمْ) أي : دون غيركم