أسرى به إلى حضرات مجده ليريه من آياته. ثم إنه تعالى وصف الكتاب بوصفين الأوّل قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ ،) أي : فيه (عِوَجاً ،) أي : اختلافا وتناقضا كما قال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء ٨٢] والجملة حال من الكتاب.
الوصف الثاني : قوله تعالى : (قَيِّماً) قال ابن عباس : يريد مستقيما ، أي : معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط. قال الرازي : وهذا عندي مشكل لأنه لا معنى لنفي الاعوجاج إلا حصول الاستقامة فتفسير القيم بالمستقيم يوجب التكرار بل الحق أنّ المراد من كونه قيّما كونه سببا لهداية الخلق وأنه يجري مجرى من يكون قيما للأطفال فالأرواح البشرية كالأطفال والقرآن كالقيّم المشفق القائم بمصالحهم وقال قبل ذلك : إنّ الشيء يجب أن يكون كاملا في ذاته ثم يكون مكملا لغيره ، ويجب أن يكون تامّا في ذاته ثم يكون فوق التمام بأن يفيض عنه كمال الغير فقوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) إشارة إلى كونه كاملا في ذاته وقوله : (قَيِّماً) إشارة إلى كونه مكملا لغيره. ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة في صفة الكتاب : (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة ، ٢] فقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) إشارة إلى كونه في نفسه بالغا في الصحة وعدم الإخلال إلى حيث يجب على العاقل أن لا يرتاب فيه ، وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) إشارة إلى كونه سببا لهداية الخلق ولكمال حالهم فقوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) قائم مقام قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) وقوله تعالى : (قَيِّماً) قائم مقام قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.)
واختلف النحويون في نصب قوله تعالى : (قَيِّماً) على أوجه : الأوّل : قال في «الكشاف» : لا يجوز جعله حالا من الكتاب لأنّ قوله تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) معطوف على قوله تعالى : (أَنْزَلَ) فهو داخل في حيز الصلة وأنه لا يجوز. قال : ولما بطل هذا وجب أن ينتصب بمضمر والتقدير : ولم يجعل له عوجا جعله قيما لأنه تعالى إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة. قال : فإن قلت فما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر؟ قلت : فائدته التأكيد ورب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح.
الوجه الثاني : أنه حال ثانية والجملة المنفية قبله حال أيضا كما مرّ وتعدّد الحال الذي حال واحد جائز ، والتقدير أنزله غير جاعل له عوجا قيما.
الوجه الثالث : أنه حال أيضا ولكنه بدل من الجملة قبله لأنها حال وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز.
ولما ذكر تعالى أنه أنزل على عبده هذا الكتاب الموصوف بما ذكر أردفه ببيان ما لأجله أنزله بقوله عزوجل : (لِيُنْذِرَ ،) أي : يخوّف الكتاب الكافرين (بَأْساً ،) أي : عذابا (شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ،) أي : صادرا من عنده ، وقرأ شعبة بإسكان الدال وكسر النون والهاء وصلة الهاء بياء والباقون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ، وابن كثير على أصله بضم الهاء في الوصل بواو. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ،) أي : الراسخين في هذا الوصف ، وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء التحتية وسكون الموحدة ، وضم الشين مخففة والباقون بضم التحتية وفتح الموحدة وكسر الشين مشدّدة. (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) وهي ما أمر به خالصا له وذانك الشيئان مفتاح الإيمان. (أَنَّ لَهُمْ ،) أي : بسبب أعمالهم (أَجْراً حَسَناً) هو الجنة حال كونهم. (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) بلا انقطاع أصلا فإنّ الأبد زمان لا آخر له ، وقوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) معطوف على قوله تعالى :