إيجادا ، غير أنّ الحسنة إحسان وامتحان ، والسيئة مجازاة وانتقام لخبر : «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله أكثر» (١). (لَيَقُولَنَ) أي : الذي أصابه الصحة والغنى (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ) أي : المصائب التي أصابتني (عَنِّي) ولم يتوقع زوالها ولا يشكر عليها (إِنَّهُ لَفَرِحٌ) أي : فرح بطر (فَخُورٌ) على الناس بما أذاقه الله تعالى من نعمائه ، وقد شغله الفرح والفخر عن الشكر فبيّن سبحانه وتعالى في هذه الآية أنّ أحوال الدنيا غير باقية بل هي أبدا في التغير والزوال والتحوّل والانتقال ، فإنّ الإنسان إمّا أن يتحوّل من النعمة إلى المحنة ، ومن اللذات إلى الآفات كالقسم الأوّل ، وإمّا أن يكون بالعكس من ذلك وهو أن ينتقل من المكروه إلى المحبوب كالقسم الثاني.
ولما بيّن تعالى أنّ الكافر عند الابتلاء لا يكون من الصابرين ، وعند الفوز بالنعماء لا يكون من الشاكرين بين حال المتقين بقوله تعالى : (إِلَّا) أي : لكن (الَّذِينَ صَبَرُوا) على الضرّاء (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : في النعماء ، أي : فإنهم إن أصابتهم شدّة صبروا ، وإن نالتهم نعمة شكروا (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) فجمع لهم تعالى بين هذين المطلوبين ، أحدهما : زوال العقاب والخلاص منه وهو المراد من قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ،) والثاني : الفوز بالثواب ودخول الجنة وهو المراد من قوله تعالى : (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.)
(فَلَعَلَّكَ) يا محمد (تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) فلا تبلغهم إياه لتهاونهم به ، فإنهم كانوا يستهزؤون بالقرآن ويضحكون منه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بين اللفظين والباقون بالفتح. (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي : بتلاوته عليهم لأجل (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا) أي : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) ينفقه في الاستتباع كالملوك (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يصدقه كما اقترحنا ، وروي عن ابن عباس : «أنّ رؤساء مكة قالوا : يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا وقال آخرون : ائتنا بالملائكة ليشهدوا بنبوّتك فقال : لا أقدر على ذلك» فنزل (إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) فلا عليك إلا البلاغ لا الإتيان بما اقترحوه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) فتوكل عليه إنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقوالهم وأفعالهم.
(أَمْ) أي : بل (يَقُولُونَ) كفار مكة (افْتَراهُ) أي : اختلقه من تلقاء نفسه وليس هو من عند الله ، قال الله تعالى : (قُلْ) لهم يا محمد (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) في البيان وحسن النظم (مُفْتَرَياتٍ) فإنكم عربيون مثلي. قال ابن عباس : هذه السور التي وقع بها هذا التحدي معينة وهي سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة ، ويونس ، وهود ، وقيل : التحدي وقع بمطلق السور وهو متقدّم على التحدّي بسورة واحدة ، والتحدّي بسورة واحدة وقع في سورة البقرة ، وفي سورة يونس ، أمّا تقدّم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر ؛ لأنّ هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية ، وأمّا في سورة يونس فلأنّ كل واحدة من هاتين السورتين مكية ، فتكون سورة هود متقدّمة في النزول على سورة يونس كما قاله الرازي ، وأنكر المبرد هذا وقال : بل سورة يونس أولا وقال معنى قوله في سورة يونس (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس ، ٣٨] أي : مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد ، فعجزوا ، فقال لهم في سورة هود : إن عجزتم
__________________
(١) أخرجه البخاري في المرضى وحديث ٥٦٤٢.