يعلم ما لا تعلمون فأنكروا أن يكون بعض البشر نبيا ، ولم ينكروا أن يكون بعض الطين إنسانا وبعض الماء علقة ، وبعض العلقة مضغة إلى آخره ، فكأنه قيل : ما حمله على ذلك فقالوا : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ) يتكلف الفضل بادعاء مثل هذا (عَلَيْكُمْ) لتكونوا أتباعا له ولا خصوصية له دونكم (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي : الملك الأعلى الإرسال إليكم وعدم عبادة غيره (لَأَنْزَلَ) كذلك (مَلائِكَةً) رسلا بإبلاغ الوحي إلينا قال الزمخشري : وما أعجب شأنّ الضلال لم يرضوا للنبوة ببشر ، وقد رضوا للألوهية بحجر (ما سَمِعْنا بِهذا) أي : الذي دعا إليه نوح من التوحيد (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي : الأمم الماضية.
(إِنْ) أي : ما (هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ولأجله يقول ما يدعيه (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) أي : فتسبب عن الحكم بجنونه إنا نأمركم بالكف عنه لأنه لا حرج على جنونه (حَتَّى) أي : إلى (حِينٍ) لعله يفيق أو يموت ، فكأنه قيل : فما قال؟ فقيل : (قالَ) عندما أيس من فلاحهم (رَبِّ انْصُرْنِي) أي : أعني عليهم (بِما كَذَّبُونِ) أي : بسبب تكذيبهم لي فإن تكذيب الرسول استخفاف بالمرسل.
(فَأَوْحَيْنا) أي : فتسبب عن دعائه أن أوحينا (إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) أي : السفينة (بِأَعْيُنِنا) أي : إنه لا يغيب عنا شيء من أمرك ولا من أمرهم ، وأنّ تعرف قدرتنا على كل شيء ، فثق بحفظنا ولا تخف شيئا من أمرهم ، روي أنه لما أوحي إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ الطائر ، قال الجوهري : جؤجؤ الطائر والسفينة صدرهما والجمع الجآجىء. ولما كان لا يعلم الصنعة قال تعالى : (وَوَحْيِنا) أي : وأمرنا وتعليمنا كيف تصنع ، فإنّ جبريل علمه عمل السفينة ، ووصف كيفية اتخاذها له ، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في سورة هود (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي : بالهلاك عقب فراغك منها أو بالركوب (وَفارَ التَّنُّورُ) قال ابن عباس : وجه الأرض ، وفي القاموس : التنور الكانون يخبز فيه ، ووجه الأرض ، وعن قتادة : أنه أشرف موضع في الأرض أي : أعلاه ، وعن علي : طلع الفجر ، وعن الحسن : أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه ، وقيل : هو مثل كقولهم : حمي الوطيس ، والأقرب كما قال الرازي ، وعليه أكثر المفسرين ، هو التنور المعروف بتنور الخباز ، فيكون له فيه آية ، روي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور في التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته ، فركب وقيل : كان تنور آدم ، وكان من حجارة ، فصار إلى نوح ، واختلف في مكانه ، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة ، وكان نوح عمل السفينة وسط المسجد ، وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة ، وقيل : بالهند.
وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى من الهمزتين المفتوحتين من كلمتين ، وحقق الأولى وسهل الثانية ورش وقنبل (فَاسْلُكْ) أي : أدخل (فِيها) أي : السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ ،) من الحيوان (اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى ، وقرأ حفص بتنوين اللام من كل أي : من كل نوع زوجين ، فزوجين مفعول واثنين تأكيد ، والباقون بغير تنوين ، فاثنين مفعول ، ومن متعلق باسلك ، وفي القصة إن الله تعالى حشر لنوح السباع والطير وغيرهما ، فجعل يضرب يده في كل جمع ، فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيحملهما في السفينة ، وروي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض (وَأَهْلَكَ) أي : وأهل بيتك من زوجك وأولادك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ) لا له (الْقَوْلُ مِنْهُمْ)