حَياتُنَا الدُّنْيا) ثم وضع هي موضع الحياة ؛ لأنّ الخبر يدل عليها ويبينها ، ومنه هي النفس تتحمل ما حملت ، والمعنى : لا حياة إلا هذه الحياة ؛ لأنّ إن النافية دخلت على هي التي بمعنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها ، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي : يموت منا من هو موجود وينشأ آخرون بعدهم ، وقيل : يموت قوم ويحيا قوم ، وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء ، وقيل : في الآية تقديم وتأخير أي : نحيا ونموت لأنهم كانوا ينكرون البعث بعد الموت كما قالوا : (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت فكأنه قيل : فما هذا الكلام الذي يقوله؟ فقيل : كذب ثم حصروا أمره في الكذب فقالوا : (إِنْ) أي : ما (هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى) أي : تعمد (عَلَى اللهِ) أي : الملك الأعلى (كَذِباً) فلا يلتفت إليه (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) أي : بمصدقين فيما يخبرنا به من البعث والرسالة ، فكأنه قيل : فما قال؟ فقيل : (قالَ رَبِ) أيها المحسن إليّ بالرسالة وبإرسالي إليهم وبغيره من أنواع النعم (انْصُرْنِي) أي : أوقع لي النصر (بِما كَذَّبُونِ) فأجابه ربه بأن : (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ) من الزمان وما زائدة وأكدت القلة بزيادتها (لَيُصْبِحُنَ) أي : ليصيرنّ (نادِمِينَ) أي : على كفرهم وتكذيبهم إذا عاينوا العذاب.
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي : صيحة العذاب والهلاك كائنة (بِالْحَقِ) أي : الأمر الثابت من العذاب الذي لا يمكن مدافعته لهم ولا لغيرهم غير الله تعالى فماتوا ، وقيل : صيحة جبريل ، ويكون القوم ثمود على الخلاف السابق (فَجَعَلْناهُمْ) بسبب الصيحة (غُثاءً) أي : مطروحين ميتين كما يطرح الغثاء شبهوا في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي واسودّ من الورق والعيدان ومنه قوله : (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) [الأعلى ، ٥] أي : أسود يابسا ، ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سببا لهوانهم عبر عنه بقوله تعالى : (فَبُعْداً) أي : هلاكا وطردا عن الرحمة (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين وضعوا قوّتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.
تنبيه : يحتمل هذا الدعاء عليهم والإخبار عنهم ، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعدا وسحقا ونفرا وتخويفا ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه : نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها.
القصة الثالثة : المذكورة في قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا) أي : بعظمتنا التي لا يضرها تقديم ولا تأخير (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده (قُرُوناً) أي : أقواما (آخَرِينَ) فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلا كما تقدم ، وتارة يقص مجملا كما هنا ، وقيل : المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهمالسلام ، وعن ابن عباس : بني اسرائيل ، ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) أي : الذي قدر لها بأنّ تموت قبله (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) عنه.
تنبيه : ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة.
(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي : متتابعين بين كل اثنين زمان طويل ، وقرأ أبو عمرو : رسلنا بسكون السين ، والباقون برفعها ، وقرأ تترا ، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالا ، والباقون بغير تنوين ، ولما كان كأنه قيل : فكان ما ذا؟ قيل : (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها) أي : بما أمرناه من التوحيد (كَذَّبُوهُ) أي : كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك.