ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقاب أهل الإفك ، وكان في المؤمنين من سمعه وسكت ، وفيهم من سمعه فتحدّث به متعجبا من قائله أو متثبتا في أمره وفيهم من أكذبه أتبعه سبحانه وتعالى بعتابهم في أسلوب خطابهم مثنيا على من كذبه ، فقال سبحانه وتعالى مستأنفا محرضا : (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (إِذْ) أي : حين (سَمِعْتُمُوهُ) أيها المدعون للإيمان (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ) أي : منكم (وَالْمُؤْمِناتُ) وكان الأصل ظننتم أي : أيها العصبة ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيها على التوبيخ ، وصرح بالنساء ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفا للذي ظن السوء من سوء الخاتمة (بِأَنْفُسِهِمْ) حقيقة (خَيْراً) وهم دون من كذب عليها فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن في الناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم لأن المؤمنين كالجسد الواحد وذلك نحو ما يروى أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : ألا ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوان كنت تظن بحرمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم سوءا قال : لا ، قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) أي : كذب بيّن.
فإن قيل : هلا قيل لو لا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر؟ أجيب : بأن ذلك مبالغة في التوبيخ على طريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دالا على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن ، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع مقالة في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك ، وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن الخير هذا إفك مبين هكذا اللفظ المصرح ببراءة ساحته لا يقول كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال ، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمعه بإخوانه.
ثم علل سبحانه وتعالى كذب الآفكين أن قال موبخا لمن اختلقه وأذاعه ملفتا لمريديه إلى ظن الخير : (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها (فَإِذْ) أي : حين (لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) أي : الموصوفين (فَأُولئِكَ) أي : البعداء من الصواب (عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) قد جعل الله التفضل بين الرمي الصادق والرمي الكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها ، والذين رموا عائشة لم تكن لهم بينة على قولهم ، فقامت عليهم الحجة ، وكانوا عند الله أي : في حكمه وشريعته كاذبين ، وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره واحتجاج عليهم بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة في التنكيل به إذا قذف امرأة محصنة من عرض نساء المسلمين فكيف بأم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حرمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم حبيبة حبيب رب العالمين.
ولما بيّن الله سبحانه وتعالى الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام وأنهم استحقوا الملام قال عاطفا على لو لا الماضية التي للتحضيض : (وَلَوْ لا) التي هي لامتناع الشيء لوجود غيره (فَضْلُ اللهِ) أي : المحيط بصفات الكمال (عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي : معاملته لكم بمزيد الإنعام والإكرام اللازم للرحمة (فِي الدُّنْيا) بقبول التوبة والمعاملة بالحلم (وَالْآخِرَةِ) بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم (لَمَسَّكُمْ) أي : عاجلكم (فِيما أَفَضْتُمْ) أي : أيها العصبة أي : خضتم (فِيهِ) من حديث الإفك (عَذابٌ عَظِيمٌ) أي : يحتقر معه اللوم والجلد.