فلما فرط منه ما فرط قال لهم أبو بكر : قوموا لستم مني ولست منكم وكفى بذلك داعيا في المنع ، فإن الإنسان إذا أحسن إلى قريبه وكافأه بالإساءة كان أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من أجنبي ؛ قال الشاعر (١) :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة |
|
على المرء من وضع الحسام المهند |
فقال له مسطح : نشدتك الله والإسلام والقرابة لا تحوجنا إلى أحد فما كان لنا أول الأمر من ذنب فقال : ألم تتكلم؟ فقال : قد كان بعض ذلك عجبا من قول حسان فلم يقبل عذره ، وقال : انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا ، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض ، وناس من الصحابة أقسموا أن لا يتصدّقوا على من تكلم بشيء من الإفك ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أبي بكر وقرأ عليه الآية ، فلما وصل إلى قوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : مع كمال قدرته فتخلقوا بأخلاقه قال : بلى يا رب إني أحب أن تغفر لي ، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه ، وقال : قبلت ما أنزل الله تعالى على الرأس والعين وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم أما إذ عفا عنكم فمرحبا بكم ، وجعل له مثلي ما كان له ، وقال : والله لا أنزعها أبدا ، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات ، ولا شك أن هذا أعظم من مقاتلة الكفار ؛ لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكفار ومجاهدة النفس أشدّ من مجاهدة الكفار ، ولهذا روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» (٢).
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي : العفائف (الْغافِلاتِ) أي : عن الفواحش وهنّ السليمات الصدور النقيات القلوب بأن لا يقع في قلوبهن فعلها اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر ؛ لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات ؛ قال في ذلك القائل متغزلا (٣):
ولقد لهوت بطفلة ميالة |
|
بلهاء تطلعني على أسرارها |
وكذلك البله من الرجال في قوله صلىاللهعليهوسلم : «أكثر أهل الجنة البله» (٤) ، وقيل : البله هم الراضون بنعيم الجنة والفطناء لم يرضوا إلا بالنظر إلى وجهه الكريم (الْمُؤْمِناتِ) بالله ورسوله (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي : عذبوا في الدنيا بالحد ، وفي الآخرة بالنار (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لعظم ذنوبهم ؛ قال مقاتل : هذا خاص في عبد الله بن أبيّ ابن سلول المنافق ، وروي أنه قيل لسعيد بن جبير : من قذف مؤمنة يلعنه الله في الدنيا والآخرة ، فقال : ذلك لعائشة رضي الله عنها خاصة. قال الزمخشري : ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر أنّ الله عزوجل قد غلظ في
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.
(٣) البيت من الكامل ، وهو للنمر بن تولب في ديوانه ص ٣٤٩ ، وبلا نسبة في لسان العرب (بله) ، وتهذيب اللغة ٦ / ٣١٢ ، وأساس البلاغة (بله) ، وتاج العروس (بله).
(٤) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٧٩ ، ١٠ / ٢٦٤ ، ٤٠٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١٥٧ ، ٢٤٤ ، ٦٢٧ ، ٩ / ٢٣٦ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٨٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٩٢٨٣.