شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف ، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما أنزل فيه على طرق مختلفة أو أساليب مفتنة كل واحد منها كاف في بابه ولو لم تنزل إلا هذه الثلاث آيات لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة ، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم كما قال تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : من قول وفعل ، وهو يوم القيامة بما أفكوا وبهتوا فإنه تعالى يوفيهم جزاءهم الحق كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) أي : جزاءهم الواجب الذين هم أهله (وَيَعْلَمُونَ) عند ذلك (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) حيث حقق لهم جزاء الذي كانوا يشكون فيه فأوجز في ذلك وأشبع وفصل وأجمل وأكد وكرر ، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين وعبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة وما ذاك إلا لأمر عظيم ، وعن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة ، وكان يسأل عن تفسير القرآن حتى سئل عن هذه الآيات فقال : من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة ، وهذا منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك ولقد برّأ الله تعالى أربعة بأربعة برّأ يوسف بلسان الشاهد فقال تعالى : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [يوسف ، ٢٦] الآية ، وبرّأ موسى عليه الصلاة والسّلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرّأ مريم بإنطاق ولدها عليه الصلاة والسّلام حين نادى من تحتها (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم ، ٣٠] الآية ، وبرّأ عائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كيف بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلىاللهعليهوسلم والتنبيه على أنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين ، ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك وليتأمل كيف غضب الله تعالى له في حرمته ، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه ، وقال قوم : ليس لمن قذف عائشة وبقية أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم توبة ؛ لأن الله تعالى لم يذكر في قذفهن توبة ، وما ذكر من أول السورة فذاك في قذف غيرهن.
فإن قيل : إن كانت عائشة هي المرادة ، فكيف قيل المحصنات؟ أجيب : بأنها لما كانت أم المؤمنين جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان ولذا قيل : إن هذا حكم كل قاذف ما لم يتب.
فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ؟) أجيب : بأن معناه ذو الحق المبين أي : العادل الظاهر العدل الذي لا ظلم في حكمه والمحق الذي لا يوصف بباطل ومن هذه صفته كان له أن يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه ، وقرأ : يشهد ؛ حمزة والكسائي بالياء التحتية والباقون بالفوقية ، ويوم ناصبه الاستقرار الذي تعلق به لهم ، وقرأ أبو عمرو : يوفيهم الله ، بكسر الهاء والميم ، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا كله في الوصل ، وأما الوقف فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم.
(الْخَبِيثاتُ) أي : من النساء والكلمات (لِلْخَبِيثِينَ) من الناس (وَالْخَبِيثُونَ) أي : من الناس (لِلْخَبِيثاتِ) أي : مما ذكر (وَالطَّيِّباتُ) أي : مما ذكر (لِلطَّيِّبِينَ) أي : من الناس (وَالطَّيِّبُونَ) أي : منهم (لِلطَّيِّباتِ) أي : مما ذكر فاللائق بالخبيث مثله وبالطيب مثله (أُولئِكَ)