قد يوافق الهدى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهواءهم.
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا) قال ابن عباس : بيّنا ، وقال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا (لَهُمُ) أي : خاصة فكان تخصيصهم بذلك منّة عظيمة يجب عليهم شكرها (الْقَوْلَ) أي : القرآن ، قال مقاتل : بيّنا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : ليكون حالهم حال من يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق.
ثم كأنه قيل هل تذكر منهم أحد؟ قيل نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقا تذكروا وذلك معنى قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي : قبل القرآن أو قبل محمد صلىاللهعليهوسلم (هُمْ بِهِ) أي : بما تقدّم (يُؤْمِنُونَ) أيضا : نزل في جماعة أسلموا من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقال مقاتل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وقال سعيد بن جبير هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلىاللهعليهوسلم فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له يا نبيّ الله إنّ لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم ذلك إلى قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وعن ابن عباس : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام.
ثم وصفهم الله تعالى بقوله تعالى : (وَإِذا يُتْلى) أي : تتجدّد تلاوة القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا) أي : مبادرين لذلك (آمَنَّا بِهِ) ثم عللوا ذلك بقولهم (إِنَّهُ الْحَقُ) أي : الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل مع كونه (مِنْ رَبِّنا) أي : المحسن إلينا ثم عللوا مبادرتهم بقولهم (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أي : القرآن (مُسْلِمِينَ) أي : منقادين غاية الانقياد مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلىاللهعليهوسلم أنه نبيّ حق.
(أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي : لإيمانهم به غيبا وشهادة أي : بالكتاب الأوّل ثم بالكتاب الثاني (بِما صَبَرُوا) أي : بسبب صبرهم على دينهم ، وقال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأؤذوا ، وعن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها ، ورجل كان من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وعبد أحسن عبادة الله تعالى ونصح لسيده» (١) ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوي قال تعالى عاطفا على يؤمنون مشيرا إلى تجديد هذه الأفعال كل حين (وَيَدْرَؤُنَ) أي : يدفعون (بِالْحَسَنَةِ) من الأقوال والأفعال (السَّيِّئَةَ) أي : فيمحونها بها ، وقال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، وقال مقاتل : يدفعون بها ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين أي : بالصفح والعفو.
__________________
(١) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٣٠١١ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٥٤.