غيره بأن يمنعوا عنه الهلاك (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) أي : الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع.
ولما خسف به واستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات ذكر حالهم بقوله :
(وَأَصْبَحَ) أي : وصار ولكنه ذكره لمقابلة المساء (الَّذِينَ تَمَنَّوْا) أي : أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشفقة أن يكونوا (مَكانَهُ) أي : تكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم (بِالْأَمْسِ) أي : الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه فالأمس قد يذكر ولا يراد به اليوم الذي قبل يومك ولكن الوقت المستقرب على طريق الاستعارة (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ) أي : يوسع (الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق على من يشاء لا لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وقضائه ابتلاء منه وفتنة و«وي» اسم فعل بمعنى أعجب أي : أتى والكاف بمعنى اللام ، وهذه الكلمة والتي بعدها متصلة بإجماع المصاحف.
واختلف القراء في الوقف فالكسائي وقف على الياء قبل الكاف ، ووقف أبو عمرو على الكاف ، ووقف الباقون على النون وعلى الهاء ، وحمزة يسهل الهمزة في الوقف على أصله ، وأما الوصل فلا خلاف فيه بينهم ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله اتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضا أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما هو قادر على الرزق من قولهم (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ) أي : تفضل الملك الأعظم (عَلَيْنا) بجوده ولم يعطنا ما تمنيناه من الكنوز على مثل حاله (لَخَسَفَ بِنا) مثل ما خسف به (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لنعمة الله تعالى كقارون والمكذبين لرسله وبما وعد لهم من ثواب الآخرة.
وقوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) إشارة تعظيم وتفخيم لشأنها أي : تلك الدار التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها ، وتلك مبتدأ والدار صفته والخبر (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) بالبغي (وَلا فَساداً) بعمل المعاصي فلم يعلق تعالى الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك إرادتهما وميل القلوب إليهما كما قال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [هود ، ١١٣] فعلق الوعيد بالركون ، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها ، وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال ذهبت الأماني ههنا ، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يرددها حتى قبض ، قال الزمخشري : ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون متعلقا بقوله تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) وبقوله تعالى : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) فيقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله تعالى (وَالْعاقِبَةُ) أي : المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) أي : عقاب الله تعالى بعمل طاعته كما تدبره علي والفضيل وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم.
ولما بيّن تعالى أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علوا في الأرض ولا فسادا بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل فقال تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) وهي ما نهى الله تعالى عنه ومنه إخافة المؤمنين (فَلا يُجْزَى) أي : من أيّ جاز وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من بقوله تعالى : (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) تصويرا لحالهم وتقبيحا لهم وتنفيرا من عملها