يمسه سوء ، فإن قيل : لم قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أنّ رحمته سابقة كما قال صلىاللهعليهوسلم عن الله تعالى : «سبقت رحمتي غضبي» (١)؟ أجيب : بأنّ السابق ذكر الكفار فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة ، فذكر الرحمة وقع تبعا لئلا يكون العذاب مذكورا وحده وهذا تحقيق قوله : «رحمتي سبقت غضبي» (وَإِلَيْهِ) وحده (تُقْلَبُونَ) أي : تردون بعد موتكم بأيسر سعي.
(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ربكم عن إدراككم (فِي الْأَرْضِ) كيف انقلبتم في ظاهرها وباطنها واختلف في معنى قوله تعالى : (وَلا فِي السَّماءِ) لأنّ الخطاب مع الآدميين وهم ليسوا في السماء فقال الفراء معناه : ولا من في السماء بمعجز إن عصى كقول حسان بن ثابت رضى الله تعالى عنه (٢) :
فمن يهجو رسول الله منكم |
|
ويمدحه وينصره سواء |
أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر (من) يريد أنه لا يعجز أهل الأرض من في الأرض ولا أهل السماء من في السماء فالمعنى أنّ من في السماء عطف بتقدير إن يعصى وقال الفراء : وهذا من غوامض العربية ، وقال قطرب : وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم فيها كقول القائل : ما يفوتني فلان هنا ولا في البصرة أي : ولا في البصرة لو كان بها وكقوله تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرحمن : ٣٣] أي : على تقدير إن تكونوا فيها.
وقال ابن عادل : وأبعد من ذلك من قدر موصولين محذوفين ، أي : وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الجنّ والأنس ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقهما ، وعلى قول الجمهور يكون المفعول محذوفا أي : وما أنتم بمعجزين أي : فائتين ما يريد الله تعالى ، وقال البقاعي : ويمكن أن يكون له نظر إلى قصة نمروذ وبنائه الصرح الذي أراد به التوصل إلى السماء لا سيما والآيات مكتنفة بقصة إبراهيم عليهالسلام من قبلها ومن بعدها.
ولما أخبرهم بأنهم مقدور عليهم وكان ربما يتوهم أن غيرهم ينصرهم صرح بنفيه في قوله تعالى (وَما لَكُمْ) أي : أجمعين وأشار إلى سفول رتبة كل من سواه بقوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره وأكد النفي بإثبات الجار بقوله (مِنْ وَلِيٍ) أي : قريب يحميكم لأجل القرابة (وَلا نَصِيرٍ) ينصركم من عذابه.
ولما بين الأصلين التوحيد والإعادة وقررهما بالبرهان هدد كل من خالفه على سبيل التفصيل بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما أظهرت لهم أنوار العقول (بِآياتِ اللهِ) أي : بسبب دلائل الملك الأعظم المرئية والمسموعة التي لا أوضح منها (وَلِقائِهِ) بالبعث بعد الموت الذي أخبر به وأقام الدليل عليه (أُولئِكَ) أي : البعداء البغضاء (يَئِسُوا) أي : متحققين يأسهم من الآن بل من الأزل لأنهم لم يرجوا لقاء الله يوما ولا قال قائل منهم : ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين
__________________
(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٥٥٣ ، ومسلم في التوبة حديث ٢٧٥١.
(٢) البيت من الوافر ، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص ٧٦ ، وتذكرة النحاة ص ٧٠ ، والدرر ١ / ٢٩٦ ، ومغني اللبيب ص ٦٢٥ ، والمقتضب ٢ / ١٣٧ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ص ٨٢ ، وهمع الهوامع ١ / ٨٨.