(وَلَئِنْ) اللام لام قسم (سَأَلْتَهُمْ) أي : كفار مكة وغيرهم (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وسوّاهما على هذا النظام العظيم (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) لإصلاح الأقوات ومعرفة الأوقات وغير ذلك من المنافع (لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي : الذي له جميع صفات الكمال لما تقرّر في نظرهم من ذلك وتلقوه من آبائهم موافقة للحق في نفس الأمر (فَأَنَّى) أي : فكيف ومن أيّ وجه (يُؤْفَكُونَ) أي : يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك ، فإن قيل : ذكر في السموات والأرض الخلق ، وفي الشمس والقمر التسخير؟ أجيب : بأنّ مجرد خلق السموات والأرض آية ظاهرة بخلاف خلق الشمس والقمر فإنهما لو كانا في موضع واحد لا يتحرّكان ما حصل الليل والنهار ولا الصيف ولا الشتاء فإذا الحكمة الظاهرة في تحريكهما وتسخيرهما.
ولما كان قد يشكل على ذلك التفاوت في الرزق عند من لم يتأمّل حق التأمّل فيقول : ما بال الخلق متفاوتين في الرزق قال تعالى : (اللهُ) أي : بما له من الإحاطة بصفات الكمال (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) بقدرته التامّة امتحانا (لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) على حسب ما يعلم من بواطنهم (وَيَقْدِرُ) أي : يضيق (لَهُ) بعد البسط أو لمن يشاء ابتلاء فظهر من ذلك قدرته وحكمته وأنت ترى الملوك وغيرهم من الأقوياء يفاوتون في الرزق بين عمالهم بحسب ما يعلمون من علمهم الناقص بأحوالهم فما ظنك بملك الملوك العالم علما لا تدنو من ساحته ظنون ولا شكوك كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له صفات الكمال (بِكُلِّ شَيْءٍ) أي : من المرزوقين ومن الأرزاق وكيف يمنع أو يساق وغير ذلك (عَلِيمٌ) يعلم مقادير الحاجات والأرزاق فهو على ذلك كله قدير يعلم ما يصلح العباد من ذلك وما يفسدهم ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء وكم رام بعض الأقوياء إغناء فقير وإفقار غني فكشف الحال عن فساد ما راموا من الانتقال.
ولما قال الله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) ذكر اعترافهم بذلك بقوله تعالى :
(وَلَئِنْ) اللام لام قسم (سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) بعد أن كان مضبوطا في جهة العلو (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) الغبراء وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات فقال : (مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن لها شيء من ذلك (لَيَقُولُنَّ اللهُ) معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها ، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك فلما ثبت أنه الخالق بدء وإعادة كما يشاهد في كل زمان قال منبها على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم (قُلِ) يا أفضل الخلق متعجبا منهم في جمودهم كيف يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون؟! (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الذي لا سميّ له وليس لغيره إحاطة من الأشياء فلزمتهم الحجة بما أقروا به من إحاطته وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فيناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به ، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يلزمه سائر الفروع ، ومنهم من كان دون ذلك فكان نفي العقل عنه مقيدا بالكمال.
ولما تبين بهذه الآيات أنّ الدنيا مبنية على الفناء والزوال والتقلع والارتحال وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال مشيرا بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا) فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى هذا الاعتراف فهذا الاسم كاف