(٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))
. (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أي : نجمعهم جمعا بكره بعد البعث وعم التابع والمتبوع بقوله تعالى : (جَمِيعاً) فلم نغادر منهم أحدا ، وقرأ حفص يحشرهم ثم يقول بالياء والباقون بالنون.
ولما كانت مواقف الحشر طويلة وزلازله مهولة قال تعالى : (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) أي : توبيخا للكافرين وإقناطا مما يرجون منهم من الشفاعة (أَهؤُلاءِ) أي : الضالون وأشار إلى أنه لا ينفع من العبادة إلا ما كان خالصا بقوله تعالى : (إِيَّاكُمْ) أي : خاصة (كانُوا يَعْبُدُونَ) فهذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر : إياك أعني واسمعي يا جارة ونحوه قوله عزوجل : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين براء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير والغرض أن يقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا فيكون تقريعهم أشد وتعييرهم أبلغ وخجلهم أعظم ولذلك :
(قالُوا) أي : الملائكة متبرئين منهم مفتتحين بالتنزيه تخضعا بين يدي البراءة خوفا (سُبْحانَكَ) أي : تنزهك تنزيها يليق بجلالك عن أن يستحق أحد غيرك أن يعبد (أَنْتَ وَلِيُّنا) أي : معبودنا الذي لا وصلة بيننا وبين أحد إلا بأمره (مِنْ دُونِهِمْ) أي : ليس بيننا وبينهم ولاية بل عداوة ، وكذا كان من تقرب إلى شخص بمعصية الله تعالى فإنه يقسى الله تعالى قلبه عليه ويبغضه فيه فيجافيه ويعاديه.
ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) أي : إبليس وذريته الذين زينوا لهم عبادتنا من غير رضانا بذلك ، وكانوا يدخلون في أجواف الأصنام ويخاطبونهم ويستجيرون بهم في الأماكن المخوفة ، ومن هذا : «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة» (١).
وقيل : صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الجن فاعبدوها ثم استأنفوا قولهم (أَكْثَرُهُمْ) أي : الإنس (بِهِمْ) أي : الجن (مُؤْمِنُونَ) أي : راسخون في الإشراك لا يقصدون بعبادتهم غيرهم.
وقيل : الضمير الأول للمشركين والأكثر : بمعنى الكل وقيل : منهم من يقصد بعبادته بتزيين الجن غيرهم وهم مع ذلك يصدقون ما يرد عليهم من إخبارات الجن على ألسنة الكهان وغيرهم مع ما يرون فيها من الكذب في كثير من الأوقات.
ولما بطلت تمسكاتهم وانقطعت تعلقاتهم تسبب عن ذلك تقريعهم الناشئ عن تنديمهم بقوله تعالى بلسان العظمة : (فَالْيَوْمَ) أي : يوم مخاطبتهم بهذا التبكيت وهو يوم الحشر (لا يَمْلِكُ) أي : شيئا من الملك (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ) أي : من المقربين والمبعدين (نَفْعاً وَلا ضَرًّا) بل تنقطع الأسباب التي كانت في دار التكليف من دار الجزاء التي المقصود فيها تمام إظهار العظمة لله وحده على أتم الوجوه.
__________________
(١) الحديث أخرجه ابن ماجه حديث ٤١٣٥ ، و ٤١٣٦ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٩ / ١٥٩ ، ١٠ / ٢٤٥ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٤٨ ، ٢٦٤.