فهما آيتان إلا أن إحداهما جعلها الله تعالى عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها العادة ولم يخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل.
تنبيه : في ثم هذه أوجه ؛ أحدها : أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك يروى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق حواء بعد ذلك بزمان. ثانيها : أنها على بابها أيضا لكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله تعالى (واحِدَةٍ) إذ التقدير من نفس وحدت أي : انفردت ثم جعل منها زوجها. ثالثها : أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل : كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها. رابعها : أنها للترتيب في الأحوال والرتب. وقال الرازي : إن ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر إحدى الكلامين عن الآخر كقول القائل : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب وأعطيتك اليوم شيئا ثم الذي أعطيتك أمس أكثر.
وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) عطف على خلقكم والإنزال يحتمل الحقيقة ، يروى أن الله تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها ، ويحتمل المجاز وله وجهان ؛ أحدهما : أنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزال عليها وهو في الحقيقة يطلق على سبب السبب كقول القائل (١) :
إذا نزل السماء بأرض قوم |
|
رعيناه وإن كانوا غضابا |
والثاني : أن قضاياه وأحكامه منزلة من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ وهو أيضا سبب في إيجادها. وقال البغوي : معنى الإنزال ههنا الإحداث والإنشاء كقوله تعالى : (أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) [الأعراف : ٢٦] وقيل : إنه إنزال الماء الذي هو سبب ثبات القطن والكتان وغيرهما الذي يجعلون منه اللباس. وقيل : معنى قوله (أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) جعلها نزلا لكم ورزقا ومعنى قوله (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي : ثمانية أصناف وهي الإبل والبقر والضأن والمعز من كل زوجان ذكر وأنثى كما بين في سورة الأنعام وقوله تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهارا لما فيها من عجائب القدرة غير أنه تعالى غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون ، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة ، والباقون : بالضم وفي الابتداء الجميع بالضم وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون ومعنى قوله تعالى : (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) ما ذكره الله تعالى بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٣] الآيات ، وأما قوله تعالى : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) فقال ابن عباس : ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن (ذلِكُمُ) أي : العالي المراتب بشهادتكم أيها الخلق كلكم بعضكم بلسان قاله وبعضكم بناطق حاله الذي جميع ما ذكر من أول السورة إلى هنا من أفعاله.
ولما أشار إلى عظمته بأداة البعد أخبر عن اسم الإشارة بقوله تعالى : (اللهُ) أي : الذي خلق
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو لمعوّد الحكماء (معاوية بن مالك) في لسان العرب (سما) ، وللفرزدق في تاج العروس (سما) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣ / ٩٨ ، والمخصص ٧ / ١٩٥ ، ١٦ / ٣٠ ، وديوان الأدب ٤ / ٤٧.