وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا ، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان : عبادات ومعاملات ، فأما العبادات فكقولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام ، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال. قال الرازي : فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا. ه وكذا القول في جميع أبواب العبادات. قال في الكشاف : ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السير وأبينها دليلا أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل (١) :
ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
يريد : المقلد ا ه ، وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجبا ، والثاني : مندوبا وكذا القول في جميع المعاملات. وقيل : يسمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل : يسمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو قال تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [البقرة : ٢٣٧] وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما يسمعه ويكف عما سواه. وروي عن ابن عباس آمن أبو بكر بالنبي صلىاللهعليهوسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم «فبشر عبادي» الآية.
(أُولئِكَ) أي : العالو الهمة والرتبة (الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) بما له من صفات الكمال لدينه (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أصحاب العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة ، وقال أبو زيد : نزل (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) [الزمر : ١٧] الآيتين في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن لا إله إلا الله.
وفي هذه الآية لطيفة وهي : أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بد من فاعل وقابل ، فأما الفاعل : فهو الله تعالى وهو المراد من قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) وأما القابل فإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقيقية في قلبه.
واختلف في معنى قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَ) وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيدا للنهي عن الأسف عليهم (عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) فقال ابن عباس معنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار ، وقيل : كلمة العذاب قوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] الآية وقيل : قوله تعالى : «هؤلاء للنار ولا أبالي» (٢) وقوله تعالى (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ) أي : تخرج (مَنْ فِي النَّارِ) جواب الشرط وأقيم فيه الظاهر مقام الضمير إذ كان الأصل أفأنت تنقذه ، وإنما وقع موقعه شهادة عليه بذلك ، والهمزة للإنكار والمعنى : لا تقدر على هدايته فتنقذه من النار وقال ابن عباس : يريد أبا لهب وولده ويجوز أن تكون من موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف. واختلف في تقديره فقدره أبو
__________________
(١) الشطر لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٢٣٩.