جميعا بقوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) أي : ستموت وخصه الله تعالى بالخطاب لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه فكل موضع كان للأتباع ، وخص فيه صلىاللهعليهوسلم بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) أي : سيموتون فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني.
فائدة : قال الفراء : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت ، والميت : بالتخفيف من فارقته الروح ولذلك لم يخفف هنا.
وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ) فيه تغليب المخاطب على الغائب (يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي : المربي لكم بالخلق والرزق (تَخْتَصِمُونَ) فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت وكذبوا واجتهدت في الإرشاد والتبليغ فلجوا في التكذيب والعناد ويعتذرون بالأباطيل يقول الأتباع أطعنا سادتنا وكبراءنا وتقول السادات أغوتنا آباؤنا الأقدمون والشياطين ، ويجوز أن يكون المراد به الاختصام العام وجرى عليه الجلال المحلي وهو أولى وإن رجح الأول الكشاف ، لما روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال : «لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال : نعم فقال : إن الأمر إذا لشديد» (١) وقال ابن عمر : عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين ، قلنا : كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأينا بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفنا أنها فينا نزلت. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذه الآية قال : كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : هو هذا. وعن إبراهيم النخعي قال : لما نزلت قالت الصحابة : كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا. وعن أبي العالية : نزلت في أهل القبلة.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه» (٢). وعن أبي هريرة أيضا قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أتدرون من المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد كان شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا ، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار» (٣).
ثم إنه تعالى بين نوعا آخر من قبائح أفعالهم بقوله تعالى :
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ
__________________
(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٣٦ ، وأحمد في المسند ١ / ١٦٤.
(٢) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٣٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٣٥ ، ٥٠٦.
(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٨١ ، والترمذي في القيامة حديث ٢٤١٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٠٣ ، ٣٣٤ ، ٣٧٢.