وقوله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ يا قَوْمِ) أي : الذين أرجوهم عند الملمات وفيهم كفاية في القيام بما يحاولون (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي : على حالتكم فيه تهديد أي : أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم ، وقرأ شعبة بألف بعد النون جمعا والباقون بغير ألف إفرادا (إِنِّي عامِلٌ) أي : في تقرير ديني (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي : بوعد لا خلف فيه.
(مَنْ يَأْتِيهِ) منا ومنكم بسبب أعماله (عَذابٌ يُخْزِيهِ) فإن خزي أعدائه دليل عليه وقد أخذهم الله تعالى يوم بدر (وَيَحِلُ) أي : ينزل (عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي : دائم وهو عذاب النار.
تنبيه : المكانة بمعنى المكان فاستعيرت من العين للمعنى كما استعير لفظ هنا وحيث للزمان وهما للمكان ، فإن قيل : حق الكلام إني عامل على مكانتي فلم حذف؟ أجيب : بأنه حذف للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد والإيذان بأن حاله لا تقف وتزداد كل يوم قوة وشدة لأن الله تعالى ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) توعدهم بكونه منصورا عليهم غالبا عليهم في الدنيا والآخرة.
ولما بين تعالى في هذه الآيات فساد مذاهبهم أي : المشركين تارة بالدلائل وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد ، وكان صلىاللهعليهوسلم يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) [الكهف : ٦] وقال تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] أردفه بكلام يزيل ذلك الحزن العظيم عن قلب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من العظمة والقدرة التامة (عَلَيْكَ) يا أشرف الخلق (الْكِتابَ) أي : الكامل الشرف (لِلنَّاسِ) أي : لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم فهو للناس عامة لأن رسالتك عامة وجعلنا إنزاله مقرونا (بِالْحَقِ) أي : بالصدق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله (فَمَنِ اهْتَدى) أي : طاوع الهادي (فَلِنَفْسِهِ) أي : فنفعه يعود إلى نفسه (وَمَنْ ضَلَ) أي : وقع في الضلال بمخالفته (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : فضرر ضلاله يعود إليه.
ولما دل السياق على أن التقدير فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى عطف عليه قوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي : لست مأمورا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم ، وذلك تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولأن الهداية والضلال من العبد لا يحصلان إلا من الله تعالى لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم ، فكما أن الحياة واليقظة لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى كذلك الضلال لا يحصل إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب.
ولما بين سبحانه أن الهداية والضلال بتقديره قال تعالى : (اللهُ) أي : الذي له مجامع الكمال وليس لشائبة النقص إليه سبيل (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) أي : الأرواح (حِينَ مَوْتِها) أي : موت أجسادها وتوفيها إماتتها وهي أن تسلب ما هي به حية حساسة دراكة من صحة أجزائها وسلامتها لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت وقوله تعالى : (وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) عطف على الأنفس أي : يتوفى الأنفس حين موتها ويتوفى أيضا الأنفس التي لم تمت في منامها ففي منامها ظرف ليتوفى أي : يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى ومنه قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ