يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف ، ٣٦] (فَزَيَّنُوا لَهُمْ) أي : من القبائح (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : من أمر الدنيا حتى آثروها على الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) أي : من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث ، وقال الزجاج : زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ، وما خلفهم من أمر الدنيا بأن الدنيا قديمة ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك ، قال القشيري : إذا أراد الله بعبده سوءا قيض له إخوان سوء وقرناء سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطان ، وشر منه النفس وبئس القرين ، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غدا عليه ، وإذا أراد الله بعبده خيرا قيض الله له قرناء خير يعينونه على الطاعة ويحملونه عليها ويدعونه إليها.
وروي عن أنس أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أراد الله بعبد شرا قيض له قبل موته شيطانا فلا يرى حسنا إلا قبحه عنده ولا قبيحا إلا حسنه عنده» (١). وعن عائشة : إذا أراد الله بالوالي خيرا قيض له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ، وإن أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله تعالى» (٢).
تنبيه : في الآية دلالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافرين لأنه تعالى قيض لهم قرناء سوء فزينوا لهم الباطل ، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر ولكن لا يرضاه كما قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧].
(وَحَقَ) أي : وجب وثبت (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : كلمة العذاب ، وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم ، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وقوله تعالى : (فِي أُمَمٍ) محله نصب على الحال من الضمير في عليهم أي : حق عليهم القول كائنين في جملة أمم كثيرة ، وفي بمعنى مع (قَدْ خَلَتْ) أي : لم تتعظ أمة منهم بالأخرى (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : في الزمان (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قد عملوا مثل أعمالهم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ) أي : جميع المذكورين منهم وممن قبلهم (كانُوا خاسِرِينَ) تعليل لاستحقاقهم العذاب.
وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أصله وقالوا أي : المعرضون ، ولكنه قال ذلك تنبيها على الوصف الذي أوجب إعراضهم (لا تَسْمَعُوا) أي : شيئا من مطلق السماع (لِهذَا الْقُرْآنِ) وعينوه بالإشارة احترازا عن غيره من الكتب القديمة كالتوراة ، قال القشيري : لأنه مقلب القلوب وكل من استمع له صبا إليه (وَالْغَوْا) أي : اهزؤوا (فِيهِ) أي : اجعلوه ظرفا للغو بأن تكثروا من الخرافات والهذيانات واللغط واللغو والتصدية أي : التصفير والتصفيق وغيرها ، وقال ابن عباس : كان بعضهم يعني قريشا يعلم بعضا إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر ، واللغو : هو من باب لغي بالكسر يلغى بالفتح إذا تكلم بما لا فائدة فيه (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي : ليكون حالكم حال من
__________________
(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٢٧٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٢٧٨٧.
(٢) أخرجه البخاري في الأحكام حديث ٧١٩٨ ، والنسائي في البيعة حديث ٤٢٠٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٧ ، ٢٨٩ ، ٣ / ٣٩ ، ٨٨.