ينبغي أن تكون من غايتها على ما هو المتعارف بينهم من شكر المنعم ، فقال دالا على عظم قدر النعمة وبعد غايتها وعلو أمر الذكر بحرف التراخي (ثُمَّ تَذْكُرُوا) أي : بقلوبكم وصرف القول إلى وجه التربية حثا على تذكر إحسانه للانتهاء عن كفرانه والإقبال على شكرانه فقال تعالى : (نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) أي : الذي أحسن إليكم بنعمة تسخيرها لكم وما تعرفونه من غيرها (إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) أي : على ما تركبونه وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق البحر وخلق الرياح وخلق جرم السفينة على وجه يمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء ، فإذا تذكر أن خلق البحر وخلق الرياح وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصرف الإنسان ولتحريكاته إنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير عرف أن ذلك نعمة من الله تعالى ، فيحمله ذلك على الانقياد لطاعة الله تعالى وعلى الاشتغال بالشكر لنعم الله تعالى التي لا نهاية لها.
ولما كان تذكر النعمة يبعث الجنان واللسان والأركان على الشكر لمن أسداها قال عز من قائل : (وَتَقُولُوا) أي : بألسنتكم جمعا بين القلب واللسان (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ) أي : بعلمه الكامل وقدرته التامة (لَنا هذا) أي : الذي ركبناه سفينة كانت أو دابة (وَما) أي : والحال أنا ما (كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي : مطيقين والمقرن المطيق للشيء الضابط له من أقرنه أي : أطاقه قال الواحدي : كان اشتقاقه من قولك صرت له قرنا ومعنى قرن فلان أي : مثله في الشدة ، وقيل : ضابطين وقال أبو عبيدة : قرن لفلان أي : ضابط له والقرن الحبل ، ومعنى الآية : ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نطيقهما فسبحان من سخر لنا هذا بقدرته وحكمته.
روى الزمخشري عن النبي صلىاللهعليهوسلم : أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : «بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون» (١). وروى أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح عن علي رضي الله عنه : أنه وضع رجله في الركاب وقال : «فقال بسم الله فلما استوى على الدابة ، قال : الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذه الآية ، ثم حمد ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل : مم تضحك يا أمير المؤمنين؟ قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعل ما فعلت فقلنا : ما يضحكك يا رسول الله قال : إن ربك يعجب من عبده إذا قال العبد لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» (٢).
وروى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أردفه على دابة فلما استقر عليها كبر ثلاثا وحمد الله تعالى ثلاثا وسبح الله ثلاثا وهلل الله تعالى واحدة وضحك ، ثم أقبل عليه فقال : ما من امرئ مسلم ركب دابة فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عليه يضحك إليه كما ضحكت إليك» (٣).
__________________
(١) أخرجه مسلم في الحج حديث ١٣٤٢ ، وأبو داود في الجهاد حديث ٢٥٩٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٤٦.
(٢) أخرجه أبو داود حديث ٢٦٠٢ ، والترمذي حديث ٣٤٤٧.
(٣) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ١٤ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٤٩٩٤.