والحال أنه وقدم في إفادة الاهتمام قوله تعالى : (فِي الْخِصامِ) أي : المجادلة إذا احتج إليها فيها (غَيْرُ مُبِينٍ) أي : مظهر حجته لضعفه عنها بالأنوثة ، قال قتادة : في هذه الآية قلما تتكلم امرأة فتريد أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
ثم بين تعالى جرأتهم على ما لا ينبغي لعاقل أن يتفوه بقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ) متصفون بأشرف الأوصاف وهو أنهم (عِبادُ الرَّحْمنِ) أي : العام النعمة الذين ما عصوه طرفة عين (إِناثاً) وذلك أدنى الأوصاف خلقا وخلقا ذاتا وصفة فهذا كفر ثالث كالكافرين قبله ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر : بكسر العين وبعدها نون ساكنة ونصب الدال ، والباقون بعد العين بباء موحدة مفتوحة وبعدها ألف ورفع الدال ثم قال تعالى تهكما بهؤلاء القائلين ذلك وتوبيخا لهم وإنكارا عليهم (أَشَهِدُوا) أي : أحضروا (خَلْقَهُمْ) أي : خلقي إياهم فشاهدوهم إناثا فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة ، وقرأ نافع بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مضمومة مسهلة كالواو وسكون الشين ، وأدخل قالون بينهما ألفا ولم يدخل ورش والباقون بهمزة واحدة مفتوحة وفتح الشين.
(سَتُكْتَبُ) بكتابة من وكلناهم بهم من الحفظة الذين لا يعصوننا فنحن نقدرهم على جميع ما نأمرهم به (شَهادَتُهُمْ) أي : قولهم فيهم أنهم إناث الذي لا ينبغي أن يكون إلا بعد تمام المشاهدة فهو قول ركيك سخيف ضعيف كما أشار إليه التأنيث (وَيُسْئَلُونَ) عنها عند الرجوع إلينا ، قال الكلبي ومقاتل : «لما قالوا هذا القول سألهم النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «ما يدريكم أنهم إناث؟ قالوا : سمعنا من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال تعالى (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ)(١) عنها في الآخرة هذا يدل على أن القول بغير دليل منكر وأن التقليد حرام يوجب الذم العظيم قال المحققون : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه ؛ أولها : إثبات الولد ثانيها : أن ذلك الولد بنت ثالثها : الحكم على الملائكة بالأنوثة.
تنبيه : قال البقاعي : أن يجوز أن يكون في السين استعطاف التوبة قبل كتابة ما قالوا ولا علم لهم به فإنه قد روى أبو أمامة أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «كاتب الحسنات على يمين الرجل وكاتب السيئات على يسار الرجل ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبح الله أو يستغفر» (٢).
ثم نبه سبحانه على أنهم عبدوهم مع ادعاء الأنوثة فيهم فقال تعالى معجبا منهم في ذلك وفي جعل قولهم حجة دالة على صحة مذهبهم وهو من أوهى الشبه : (وَقالُوا) أي : بعد عبادتهم لهم ونهيهم عن عبادة غير الله تعالى (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ) أي : الذي له عموم الرحمة (ما عَبَدْناهُمْ) أي : الملائكة فعبادتنا إياهم بمشيئته فهو راض بها ولو لا أنه راض بها لعجل لنا العقوبة ، فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على الرضا بها وذلك باطل لأن المشيئة ترجيح بعض الممكنات على بعض ، مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو غيره ولذلك جهلهم فقال تعالى : (ما لَهُمْ بِذلِكَ) أي :
__________________
(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٦ / ٧٣.
(٢) أخرجه ابن الجوزي في زاد المسير ٨ / ١١ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٥٩ ، والقرطبي في تفسيره ٧ / ١٠.