السورة خصوصا وفي جميع القرآن عموما (بِالْحَقِ) على لسان الرسل وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الدال عند الجيم ، والباقون بالإدغام.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لما فيه من المنع من الشهوات فلذلك أنتم تقولون إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط لا لأجل أن في حقيّته نوعا من الخفاء ، فإن قيل : كيف قال : ونادوا يا مالك بعد أن وصفهم بالإبلاس؟ أجيب : بأنها أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم ، روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون : ادعوا مالكا فيدعون (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ).
ولما ذكر تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال تعالى : (أَمْ أَبْرَمُوا) أي : أحكم كفار مكة (أَمْراً) أي : في المكر برسول الله صلىاللهعليهوسلم وفي رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي : محكمون أمرا في مجازاتهم أي : مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) [الطور : ٤٢] قال مقاتل : نزلت في تدبيرهم المكر في دار الندوة.
تنبيه : أم منقطعة والإبرام : الإتقان وأصله في الفتل يقال أبرم الحبل ، أي : أتقن فتله وهو الفتل الثاني والأول يقال له سحيل قال زهير (١) :
لعمري لنعم السيدان وجدتما |
|
على كل حال من سحيل ومبرم |
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا) أي : على ما لنا من العظمة المقتضية لجميع صفات الكمال (لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ) أي : كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يغضبنا ، والسر ما حدث به الشخص نفسه أو غيره في مكان خال.
ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعلم ما في الضمائر وهي مما يعلم حقق أن المراد به حقيقته بقوله تعالى : (وَنَجْواهُمْ) أي : تناجيهم في كلامهم المرتفع فيما بينهم حتى كأنه على نجوة أي : مكان عال ، فعلم أن المراد حقيقة السمع وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع (بَلى) نسمع الصنفين كليهما على حد سواء (وَرُسُلُنا) وهم الحفظة من الملائكة على الجميع السلام على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا (لَدَيْهِمْ) أي : عندهم ، وقرأ حمزة بضم الهاء والباقون بكسرها (يَكْتُبُونَ) أي : يجددون الكتابة كل ما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة يجتنب ما يخاف عاقبته ، وعن يحيى بن معاذ الرازي : من ستر عن الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السموات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق.
ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعائهم لله ولدا من الملائكة وهددهم بقوله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أمر الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم : (قُلْ) أي :
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ١٤ ، والأشباه والنظائر ٨ / ٢١٠ ، وجمهرة اللغة ص ٥٣٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ٦ ، والدرر ٤ / ٢٢٧ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٧٩٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ٤٢ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٣٩٠.