في ليلة القدر فدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال ، قال ابن عادل : إلى إسرافيل وقال الزمخشري : إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت ، قال الزمخشري : وعن بعضهم يعطى كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته.
وقوله تعالى : (أَمْراً) أي : فرقا حال من فاعل أنزلناه ومن مفعوله أي : أنزلناه آمرين أو مأمورا به كائنا (مِنْ عِنْدِنا) على مقتضى حكمتنا وقوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا) أي : أزلا وأبدا (مُرْسِلِينَ) جواب ثالث أو مستأنف أو بدل من قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي : لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس فلا يكون لأحد على الله تعالى حجة ، قال البقاعي : وهذا الكلام المنتظم والقول الملتئم بعضه ببعض المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم ينزل صحيفة ولا كتابا إلا في هذه الليلة ، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها ، وكذلك قوله تعالى في سورة القدر : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر : ٤] فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمر الحكيم.
ثم بين تعالى حال الرسالات بقوله تعالى : (رَحْمَةً) وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله : (مِنَّا) إلى قوله تعالى (مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك فإن رسالاتهم كانت لب الأنوار في العبادات وتمهيد الشرائع في البلاد حتى استنارت القلوب واطمأنت النفوس بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق وقال ابن عباس : معنى رحمة من ربك أي : رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل ، وقال الزجاج : أنزلناه في ليلة مباركة للرحمة (إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي : أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا حاجاتهم بألسنتهم أو لم يذكروها فإن ذكروها فإنه سميع وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها.
(رَبِ) أي : مالك ومنشئ ومدبر (السَّماواتِ) أي : جميع الأجرام العالية (وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) مما تشاهدون من هذا الفضاء وما فيه من الهواء وغيره مما تعلمون من أكساب العباد وغيرها مما لا تعلمون ، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بخفض الباء الموحدة على البدل أو البيان أو النعت ، والباقون برفعها على إضمار مبتدأ أو على أنه مبتدأ خبره لا إله إلا هو ، والمقصود من هذه الآية أن المنزّل إذا كان موصوفا بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزّل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة ، فإن قيل : ما معنى الشرط الذي هو قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)؟ أجيب : بأنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض ربا وخالقا فقيل لهم : إن كنتم يا أهل مكة موقنين بأنه تعالى رب السموات والأرض فأيقنوا بأن محمدا عبده ورسوله.
ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته أنتج ذلك قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : وإلا لنازعه في أمرهما منازع ، أو أمكن أن ينازع فيكون