وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢))
(قُلْ) أي : يا أفضل الخلق (لِلَّذِينَ آمَنُوا) ادعوا التصديق بكل ما جاءهم عن الله تعالى (يَغْفِرُوا) أي : يستروا سترا بالغا (لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أي : مثل وقائع الملك الأعظم المحيط بصفة الكمال ، فقال ابن عباس : «نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها : المريسيع ، فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر : قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلىاللهعليهوسلم وقرب أبي بكر رضي الله عنه ، فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك ، فبلغ ذلك عمر فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١).
وقال مقاتل : إن رجلا من بني غفار شتم عمر بمكة فهم عمر أن يبطش به ، فنزلت بالغفر والتجاوز ، وروى ميمون بن مهران : «أن فنحاص اليهودي لما نزل قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] قال : احتاج رب محمد فسمع ذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه فبعث النبي صلىاللهعليهوسلم إليه فرده».
وقال القرطبي والسدي : «نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أهل مكة كانوا في أذى كثير من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فنزلت». ثم نسختها آية القتال ، قال الرازي : وإنما قالوا بالنسخ لأنه يدخل تحت الغفران أن لا يقتلوا ولا يقاتلوا ، فلما أمر الله تعالى بالمقاتلة كان نسخا والأقرب أن يقال إنه محمول على ترك المنازعة وعلى التجاوز فيما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية ، وقال ابن عباس : لا يرجون أيام الله أي : ثوابه ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عذاب الأمم الماضية وتقدم تفسير أيام الله عند قوله تعالى (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] وقوله تعالى (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) علة للأمر ، والقوم : هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو التنويع أو لكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بالنون لنجزي نحن بما لنا من العظمة ، والباقون بالياء التحتية أي : ليجزي الله سبحانه وتعالى.
ولما رغب سبحانه وتعالى ورهب وقرر أنه لا بد من الجزاء زاد في الترغيب والترهيب بأن النفع والضر لا يعدوهم فقال تعالى شارحا للجزاء : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) قل أو جل (فَلِنَفْسِهِ) أي : خاصة عمله يرى جزاءه في الدنيا والآخرة وهو مثل ضربه الله تعالى للذين يغفرون (وَمَنْ أَساءَ)
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.