من الأوثان عطف على (ما كَسَبُوا) و (ما) فيهما إما مصدرية ، أو بمعنى الذي أي : لا يغني عنهم كسبهم ولا اتخاذهم أو الذي كسبوه ولا الذي اتخذوه (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي : لا يدع جهة من جهاتهم ولا زمانا من أزمانهم ولا عضوا من أعضائهم إلا ملأه ، فإن قيل : قال تعالى في الأول (مُهِينٌ) وفي الثاني (عَظِيمٌ) فما الفرق بينهما؟ أجيب : بأن كون العذاب مهينا يدل على حصول العذاب مع الإهانة ، وكونه عظيما يدل على كونه بالغا إلى أقصى الغايات في الضرر.
وقوله تعالى : (هذا هُدىً) إشارة إلى القرآن يدل عليه قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) هي القرآن أي : هذا القرآن كامل في الهداية كما تقول : زيد رجل أي : كامل في الرجولية وأيما رجل (لَهُمْ عَذابٌ) كائن (مِنْ رِجْزٍ) أي : شديد العذاب (أَلِيمٌ) أي : بليغ الإيلام.
ولما ذكر تعالى ذكر الربوبية ذكر بعض آثارها وما فيها من آياته فقال مستأنفا دالا على عظمتها بالاسم الأعظم : (اللهُ) أي : الملك الأعلى المحيط بجميع صفات الكمال (الَّذِي سَخَّرَ) أي : وحده من غير حول منكم ولا قوة في ذلك بوجه من الوجوه (لَكُمُ الْبَحْرَ) أيها الناس بركم وفاجركم بما جعل فيه مما لا يقدر عليه إلا واحد لا شريك له فاعل بالاختيار من القابلية للسير فيه من الرقة والليونة (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي : السفن (فِيهِ بِأَمْرِهِ) أي : بإذنه ولو كانت موقرة بأثقال الحديد الذي يغوص فيه أخف شيء منه كالإبرة وما دونها ، ففي ذلك دلالة ظاهرة على وحدانيته لأن جريان الفلك على وجه الماء لا يحصل إلا بثلاثة أشياء ؛ أحدها : الرياح التي توافق المراد ، وثانيها : خلق وجه الماء على الملامسة التي تجري عليها الفلك ، وثالثها : خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغرق فيه ، وهذه الأحوال لا يقدر عليها أحد من البشر (وَلِتَبْتَغُوا) أي : تطلبوا بشهوة نفس واجتهاد بما تحملون فيه من البضائع وتتوصلون إليه من الأماكن والمقاصد بالصيد والغوص على اللؤلؤ والمرجان وغير ذلك (مِنْ فَضْلِهِ) لم يصنع شيئا منه سواه (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه على ذلك.
(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من شمس وقمر ونجم بها وغير ذلك بحيث لا يمكنكم الوصول إليه بوجه (وَما فِي الْأَرْضِ) من دابة وشجر ونبات وأنهار وغيره ولو شاء لجعله كما في السماء لا وصول لكم إليه وقوله تعالى (جَمِيعاً) توكيد لما دل عليه معنى ما من العموم وقيل : حال من (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وقوله تعالى (مِنْهُ) حال أي : سخرها كائنة منه تعالى لا صنع لأحد غيره في شيء من ذلك ، قال ابن عباس : كل ذلك رحمة منه ، وقال الزجاج : كل ذلك تفضل منه وإحسان ، وقال بعض العارفين : سخر لك الكل لئلا يسخرك لشيء منها فتكون مسخرا لمن سخر لك الكل وهو الله تعالى فإنه يقبح بالمخدوم أن يخدم خادمه (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : الأمر العظيم من تسخيره لنا كل شيء في الكون (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحات على أنهم في الالتفات إلى غيره في ضلال مبين بعد تسخيره لنا ما لنا من الأعضاء والقوى على هذا الوجه البديع مع أن من هذا المسخر لنا ما هو أقوى منا (لِقَوْمٍ) أي : ناس فيهم أهلية القيام بما يجعل إليهم (يَتَفَكَّرُونَ) فيعلمون أنه المتوحد باستحقاق الإلهية فلا يشركون به شيئا.
واختلف في سبب نزل قوله تعالى :
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ