مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] ولما أمر تعالى بالإيمان ذكر فائدته بقوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ) أي : الله تعالى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي : بعضها من الشرك وما شابهه مما هو حق لله تعالى وكذا ما يجازى به صاحبه في الدنيا بالعقوبات والنكبات والهموم ونحوها ، مما أشار إليه قوله تعالى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] وأما المظالم فلا تغفر إلا برضا أربابها ، وقيل : (مِنْ) زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم ، وقيل : بل فائدته أن كلمة (مِنْ) هنا لابتداء الغاية ، والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل (وَيُجِرْكُمْ) أي : يمنعكم منع الجار لجاره لكونكم بالتحيز إلى داعيه صرتم من حزبه. (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) «قال ابن عباس : فاستجاب لله تعالى لهم من قومهم نحو سبعين رجلا من الجنّ فرجعوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فوافوه في البطحاء ، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم» (١).
تنبيه : اختلفوا في أن الجنّ هل لهم ثواب أو لا فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، ويقال لهم : كونوا ترابا ، مثل البهائم واحتجوا على ذلك بقوله تعالى (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وهو قول أبي حنيفة.
والصحيح أنّ حكمهم حكم بني آدم يستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وهو قول ابن أبي ليلى ومالك وتقدّم عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا نحو ذلك قال الضحّاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون ، لأنّ كل دليل دلّ على أنّ البشر يستحقون الثواب فهو بعينه قائم في حق الجن ، والفرق بينهما بعيد جدا وذكر النقاش في تفسيره حديثا أنهم يدخلون الجنة ، فقيل : هل يصيبون من نعيمها قال يلهمهم الله تعالى تسبيحه وذكره فيصيبهم من لذته ما يصيب بني آدم من نعيم الجنة وقال أرطأة بن المنذر سألت ضمرة بن حبيب هل للجنّ ثواب؟ قال : نعم وقرأ (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ)(٢) [الرحمن : ٥٦] وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجنّ حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها» (٣).
ولما أفهم كلامهم أنهم إن لم يجيبوا ينتقم منهم بالعذاب الأليم ، أتبعوه ما هو أغلظ إنذارا منه.
فقالوا (وَمَنْ لا يُجِبْ) أي : لا يتجدد منه أن يجيب (داعِيَ اللهِ) أي : الملك الذي لا كفء له (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ) أي : لا يعجز الله عزوجل بالهرب منه (فِي الْأَرْضِ) فيفوته فإنه أيّ مكان سلك فيها فهو في ملكه وملكه وقدرته محيطة به (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ) أي : الله تعالى الذي لا مجير عليه (أَوْلِياءُ) يفعلون لأجله ما يفعل القريب مع قريبه من الذب عنه والاستشفاع له والافتداء (أُولئِكَ) البعيدون من كل خير (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر في نفسه أنه ضلال مظهر لكل أحد قبح إحاطته بهم.
تنبيه : ههنا همزتان مضمومتان من كلمتين ولا نظير لهما في القرآن العظيم قرأ قالون والبزي بتسهيل الأولى كالواو مع المدّ والقصر وسهل الثانية ورش وقنبل بعد تحقيق الأولى ولهما أيضا إبدال الثانية ألفا وأسقط الأولى أبو عمرو مع المدّ والقصر والباقون بتحقيقهما وهم على مراتبهم في المدّ.
(أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : يعلموا علما هو في الوضوح كالرؤية (أَنَّ اللهَ) ودل على ما دلّ عليه هذا
__________________
(١) انظر البغوي في تفسيره ٤ / ٢٠٦.
(٢) انظر الحاشية السابقة.
(٣) انظر الحاشية ما قبل السابقة.