قال ع (١) : وهذه المسألة إذا تأمّلت ، قرب الخلاف فيها من الاتفاق ، وذلك أنّ الله تعالى قسّم آي الكتاب قسمين محكما ومتشابها ، فالمحكم هو المتّضح المعنى لكلّ من يفهم كلام العرب ، لا يحتاج فيه إلى نظر ، ولا يتعلّق به شيء يلبّس ، ويستوي في علمه الراسخ وغيره ، والمتشابه على نوعين ، منه : ما لا يعلم البتّة ؛ كأمر الرّوح ، وآماد المغيّبات التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك ، ومنه : ما يحمل على وجوه في اللغة ، ومناح في كلام العرب ، فيتأوّل ، ويعلم تأويله ، ولا يسمّى أحد راسخا إلّا أن يعلم من هذا النوع كثيرا ؛ بحسب ما قدّر له ، فمن قال : إن الراسخين لا يعلمون تأويله ، فمراده النوع الثاني الّذي ذكرناه ، ومن قال : إن الراسخين لا يعلمون تأويله ، فمراده النوع الأول ؛ كأمر الرّوح ، ووقت الساعة ، لكنّ تخصيصه المتشابه بهذا النوع غير صحيح ، بل هو نوعان ؛ كما ذكرنا ، والضمير في (تَأْوِيلِهِ) عائد على جميع متشابه القرآن ، وهما نوعان ؛ كما ذكرنا ، والرّسوخ : الثبوت في الشيء ، وسئل النبيّ صلىاللهعليهوسلم عن الرّاسخين في العلم ، فقال : «هو من برّت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه» (٢) ، قلت : ومن «جامع العتبيّة» ، وسئل مالك عن تفسير الراسخين في العلم ، فقال : العالمون العالمون بما علموا ، المتّبعون له ، قال ابن رشد : قول مالك هذا هو معنى ما روي من أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم سئل : من الراسخ في العلم؟ فقال : «من برّت يمينه ، وصدق لسانه ، / واستقام به قلبه ، وعفّ بطنه ، فذلك الرّاسخ في العلم» ؛ قال ابن رشد : ويشهد لصحّة هذا قول الله (عزوجل) : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ؛ لأنه كلام يدلّ على أنّ من لم يخش الله ، فليس بعالم. انتهى.
قلت : وقد جاء في فضل العلم آثار كثيرة ، فمن أحسنها : ما رواه أبو عمر بن عبد البرّ بسنده ، عن معاذ بن جبل ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «تعلّموا العلم ؛ فإنّ تعليمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومذاكرته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ؛ لأنّه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل أهل الجنّة ، وهو الأنيس في الوحشة ، والصّاحب في الغربة ، والمحدّث في الخلوة ، والدّليل على السّرّاء والضّرّاء ، والسّلاح على الأعداء ، والزّين عند الأخلّاء ، ويرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وأئمّة تقتصّ آثارهم ، ويقتدى بفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم ، وترغب الملائكة في خلّتهم ،
__________________
(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (١ / ٤٠٣)
(٢) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨ / ١٧٧ ـ ١٧٨) رقم (٧٦٥٨) ، من طريق عبد الله بن يزيد بن آدم ، حدثني أبو الدرداء ، وأبو أمامة ، وواثلة بن الأسقع ، وأنس بن مالك به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٦ / ٣٢٧) ، وقال : وفيه عبد الله بن يزيد ، وهو ضعيف.