وقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) : استثناء ما تلي في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ...) [المائدة : ٣] الآية : «وما» في موضع نصب ؛ على أصل الاستثناء.
وقوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ...) نصب «غير» ؛ على الحال من الكاف والميم في قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ) ، وهو استثناء بعد استثناء.
قال ص : وهذا هو قول الجمهور ، واعترض بأنّه يلزم منه تقييد الحلّيّة بحالة كونهم غير محلّين الصّيد ، وهم حرم ، والحلّيّة ثابتة مطلقا.
قال ص : والجواب عندي عن هذا ؛ أنّ المفهوم هنا متروك ؛ لدليل خارجيّ ، وكثير في القرآن وغيره من المفهومات المتروكة لمعارض ، ثم ذكر ما نقله أبو حيّان / من الوجوه التي لم يرتضها.
م : وما فيها من التكلّف ، ثم قال : ولا شكّ أنّ ما ذكره الجمهور من أنّ «غير» : حال ، وإن لزم عنه الترك بالمفهوم ، فهو أولى من تخريج تنبو عنه الفهوم. انتهى.
وقوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) : تقوية لهذه الأحكام الشرعيّة المخالفة لمعهود أحكام الجاهليّة ، أي : فأنت أيها السّامع لنسخ تلك التي عهدتّ ، تنبّه ، فإنّ الله الذي هو مالك الكلّ يحكم ما يريد لا معقّب لحكمه سبحانه.
قال ع (١) : وهذه الآية مما تلوح فصاحتها ، وكثرة معانيها على قلّة ألفاظها لكلّ ذي بصر بالكلام ، ولمن عنده أدنى إبصار ، وقد حكى النّقّاش ؛ أنّ أصحاب الكنديّ (٢) قالوا للكنديّ : أيّها الحكيم ، اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم ، أعمل لكم مثل بعضه ، فاحتجب أياما كثيرة ، ثم خرج ، فقال : والله ، ما أقدر عليه ، ولا يطيق هذا أحد ؛ إني فتحت المصحف ، فخرجت سورة المائدة ، فنظرت ، فإذا هو قد أمر بالوفاء ، ونهى عن
__________________
(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٢ / ١٤٥)
(٢) يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي ، أبو يوسف : فيلسوف العرب والإسلام في عصره ، وأحد أبناء الملوك من كندة. نشأ في البصرة. وانتقل إلى بغداد ، فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. وألف وترجم وشرح كتبا كثيرة. يزيد عددها على ثلاثمائة. ولقي في حياته ما يلقاه أمثاله من فلاسفة الأمم ، فوشي به إلى المتوكل العباسي ، فضرب وأخذت كتبه ، ثم ردت إليه. وأصاب عند المأمون والمعتصم منزلة عظيمة وإكراما. قال ابن جلجل : «ولم يكن في الإسلام غيره احتذى في تواليفه حذو أرسطاطاليس».
تنظر ترجمته في : «الأعلام» (٨ / ١٩٥) (١٧٦٩) ، «طبقات الأطباء» (١ / ٢٠٦ ـ ٢١٤) ، «لسان الميزان» (٦ / ٣٠٥)