هذا من زكريّا على جهة الشكّ ، وإنما سأل علامة على وقت الحمل.
وقوله تعالى : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ...) الآية : قال الطبريّ وغيره : لم يكن منعه الكلام لآفة ، ولكنه منع محاورة النّاس ، وكان يقدر على ذكر الله ، ثم استثنى الرّمز ، وهو استثناء منقطع ، والكلام المراد في الآية : إنما هو النطق باللّسان ، لا الإعلام بما في النّفس ، والرّمز في اللغة : حركة تعلم بما في نفس الرّامز ؛ كانت الحركة من عين ، أو حاجب ، أو شفة ، أو يد ، أو عود ، أو غير ذلك ، وقد قيل للكلام المحرّف عن ظاهره : رموز.
وأمره تعالى بالذّكر لربه كثيرا ؛ لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله ، وهذا قاض بأنه لم تدركه آفة ولا علّة في لسانه ، قال محمّد بن كعب القرظيّ : لو كان الله رخّص لأحد في ترك الذّكر ، لرخّص لزكريّاء ـ عليهالسلام ـ ؛ حيث قال : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) ، لكنه قال له : (اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) (١) قال الإمام الفخر (٢) : وفي الآية تأويلان :
أحدهما : أنّ الله تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقدره على الذّكر والتّسبيح والتهليل ؛ ليكون في تلك المدّة مشتغلا بذكر الله وطاعته ؛ شكرا لله على هذه النّعمة ، ثم أعلم أنّ هذه الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه :
أحدها : أنّ قدرته على الذكر والتّسبيح ، وعجزه عن التكلّم بأمور الدنيا من المعجزات.
وثانيها : أنّ حصول ذلك العجز مع صحّة البنية من المعجزات.
وثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت تلك الحالة ، فقد حصل الولد ، ثم إنّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات.
والتأويل الثّاني : أن المراد منه الذكر بالقلب ؛ وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة الله تعالى عادتهم في أوّل الأمر أن يواظبوا على الذكر اللّسانيّ مدة ، فإذا امتلأ القلب من نور ذكر الله تعالى / ، سكتوا باللّسان ، وبقي الذّكر في القلب ؛ ولذلك قالوا : «من عرف الله ، كلّ لسانه» ، فكان زكريّاء ـ عليهالسلام ـ أمر بالسّكوت باللّسان واستحضار معاني
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٦١) برقم (٧٠١٨) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١ / ٤٣٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢ / ٤١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم عن محمد بن كعب القرظي.
(٢) ينظر : «مفاتيح الغيب» (٨ / ٣٦)