فقال قوم : كان ذلك في شرعهم ، والقول عندي في ذلك : أنّ مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما طول القيام ، والسّجود ، وخصّا بالذكر لشرفهما ، وهذان يختصّان بصلاتها مفردة وإلّا فمن يصلّي وراء إمام ، فليس يقال له : أطل قيامك ، ثم أمرت بعد بالصّلاة في الجماعة ، فقيل لها : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) ، وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلّا يتكرّر اللفظ ، ولم يرد في الآية الركوع والسجود الذي هو منتظم في ركعة واحدة ، والله أعلم.
وقال ص : قوله : (وَارْكَعِي) ، الواو : لا ترتّب ، فلا يسأل ، لم قدّم السجود ، إلا من جهة علم البيان ، وجوابه أنه قدّم ؛ لأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربّه ، فكان أشرف ، وقيل : كان مقدّما في شرعهم. ا ه.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)(٤٨)
وقوله تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ...) الآية : هذه المخاطبة لنبيّنا محمّد صلىاللهعليهوسلم ، والإشارة بذلك إلى ما تقدّم ذكره من القصص ، والأنباء : الأخبار ، والغيب : ما غاب عن مدارك الإنسان ، ونوحيه : معناه : نلقيه في نفسك في خفاء ، وحدّ الوحي : إلقاء المعنى في النّفس في خفاء ، فمنه بالملك ، ومنه بالإلهام ، ومنه بالإشارة ، ومنه بالكتاب.
وفي هذه الآية بيان لنبوّة نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوسلم ؛ إذ جاءهم بغيوب / لا يعلمها إلا من شاهدها ، وهو لم يكن لديهم ، أو من قرأها في كتبهم ، وهو صلىاللهعليهوسلم أمّيّ من قوم أمّيّين ، أو : من أعلمه الله بها ، وهو ذاك صلىاللهعليهوسلم ، و (لَدَيْهِمْ) : معناه : عندهم ومعهم.
وقوله : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ ...) الآية : جمهور العلماء على أنه استهام لأخذها والمنافسة فيها ، فروي أنهم ألقوا أقلامهم الّتي كانوا يكتبون بها التوراة في النّهر ، فروي أنّ قلم زكريّا صاعد الجرية ، ومضت أقلام الآخرين ، وقيل غير هذا ، قلت : ولفظ ابن العربيّ في «الأحكام» قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «فجرت الأقلام وعلا قلم زكريّا» (١) ا ه ، وإذا ثبت الحديث ،
__________________
(١) ينظر : «تفسير القرطبي» (٤ / ٨٦)