يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) يعني بالقتال (أَوَّلَ مَرَّةٍ) يعني يوم بدر وذلك أنهم قالوا لا ننصرف حتي نستأصل محمدا وأصحابه وقيل أراد به أنهم بدءوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم (أَتَخْشَوْنَهُمْ) يعني أتخافوهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) يعني في ترك القتال (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعني إن كنتم مصدقين بوعد الله ووعيده.
(قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧))
قوله سبحانه وتعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) يريد بالتعذيب القتل يعني يقتلهم الله بأيديكم.
فإن قلت : كيف الجمع بين قوله يعذبهم الله بأيديكم وبين قوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم؟ قلت : المراد بقوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم عذاب الاستئصال يعني وما كان الله ليستأصلهم بالعذاب جميعا وأنت فيهم والمراد بقوله : قاتلوهم ، يعني الذين نقضوا العهد وبدءوا بالقتال فأمر الله نبيه صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بقتال من قاتلهم أو نقض عهدهم.
والفرق بين العذابين ، أن عذاب الاستئصال يتعدى إلى المذنب وغير المذنب وإلى المخالف والموافق ، وعذاب القتل لا يتعدى إلا إلى المذنب المخالف وقوله تعالى : (وَيُخْزِهِمْ) يعني ويذلهم بالقهر والأسر وينزل بهم الذل والهوان (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) يعني بأن يظفركم بهم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) يعني ويبرئ داء قلوبهم مما كانوا ينالونه من الأذى منهم ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه فإنه يفرح بذلك ويعظم سروره ويصير ذلك سببا لقوة اليقين وثبات العزيمة. قال مجاهد والسدي : أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة حتى قتلوا منهم ثم شفى الله صدور خزاعة من بني بكر حتى أخذوا ثأرهم منهم بالنبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) يعني ويذهب وجد قلوبهم بما نالوه من بني بكر.
روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال يوم فتح مكة : ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر ذكره البغوي بغير سند. ثم قال تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) هذا كلام مستأنف ليس له تعلق بالأول والمعنى ويهدي الله من يشاء إلى الإسلام فيمن عليه بالتوبة من الشرك والكفر ويهديه إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم منّ الله عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعني بسرائر عباده ومن سبقت له العناية الأزلية بالسعادة فيتوب عليه ويهديه إلى الإسلام (حَكِيمٌ) يعني في جميع أفعاله قوله عزوجل : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) هذا من الاستفهام المعترض في وسط الكلام ولذلك أدخلت فيه أم لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أراد بالعلم : المعلوم ، لأن وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده. قاله الإمام فخر الدين الرازي : ونقل الواحدي عن الزجاج أي العلم الذي يجازي عليه لأنه إنما يجازي على ما عملوا