ولم ترد السجن الطويل وهذه لطيفة فافهمها فلما سمع يوسف مقالتها أراد أن يبرهن عن نفسه (قالَ) يعني يوسف (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) يعني طلبت مني الفحشاء فأبيت وفررت وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام ما كان يريد أن يذكر هذا القول ولا يهتك سترها ولكن لما قالت هي ما قالت ولطخت عرضه احتاج إلى إزالة هذه التهمة عن نفسه فقال هي راودتني عن نفسي (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) يعني وحكم حاكم من أهل المرأة واختلفوا في ذلك الشاهد ، فقال سعيد بن جبير والضحاك : كان صبيا في المهد فأنطقه الله عزوجل وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة وابنة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم» ذكره البغوي بغير سند والذي جاء في الصحيحين «ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريج وابن المرأة» وقصتهم مخرجة في الصحيح قيل كان هذا الصبي شاهد يوسف ابن خال المرأة. وقال الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد : لم يكن صبيا ولكنه كان رجلا حكيما ذا رأي ، وقال السدي : هو ابن عم المرأة فحكم فقال (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) أي من قدام (فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ).
(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠))
(وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي من خلف (فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) وإنما كان هذا الشاهد من أهل المرأة ليكون أقوى من نفي التهمة عن يوسف عليه الصلاة والسلام ونفي التهمة عنه من وجوه منها أنه كان في الظاهر مملوك هذه المرأة والمملوك لا يبسط يديه إلى سيدته ومنها أنهم شاهدوا يوسف يعدو هاربا منها والطالب لا يهرب ومنها أنهم رأوا المرأة قد تزينت بأكمل الوجوه فكان إلحاق التهمة بها أولى ومنها أنهم عرفوا يوسف في المدة الطويلة فلم يروا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذه الحالة فكان مجموع هذه العلامات دلالة على صدقه مع شهادة الشاهد له بصدقه أيضا (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) يعني فلما رأى قطفير زوج المرأة قميص يوسف عليه الصلاة والسلام قد من خلفه عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه الصلاة والسلام (قالَ) يعني قال لها زوجها قطفير (إِنَّهُ) يعني هذا الصنيع (مِنْ كَيْدِكُنَ) يعني من حيلكن ومكرهن (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فإن قلت كيف وصف كيد النساء بالعظيم مع قوله تعالى وخلق الإنسان ضعيفا وهلا كان مكر الرجال أعظم من مكر النساء.
قلت أما كون الإنسان خلق ضعيفا فهو بالنسبة إلى خلق ما هو أعظم منه كخلق الملائكة والسموات والأرض والجبال ونحو ذلك وأما عظم كيد النساء ومكرهن في هذا الباب فهو أعظم من كيد جميع البشر لأن لهن من المكر والحيل والكيد في إتمام مرادهن ما لا يقدر عليه الرجال في هذا الباب ، وقيل : إن قوله إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم من قول الشاهد وذلك أنه لما ثبت عنده خيانة المرأة وبراءة يوسف عليه الصلاة والسلام قال هذه المقالة (يُوسُفُ) يعني يا يوسف (أَعْرِضْ عَنْ هذا) يعني اترك هذا الحديث فلا تذكره لأحد حتى لا يفشو ويشيع وينتشر بين الناس وقيل معناه يا يوسف لا تكترث بهذا الأمر ولا تهتم به فقد بان عذرك وبراءتك ثم التفت إلى المرأة فقال لها (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) يعني توبي إلى الله مما رميت يوسف به من الخطيئة وهو بريء منها وقيل إن هذا من قول الشاهد يقول للمرأة سلي زوجك أن يصفح عنك ولا يعاقبك بسبب ذنبك (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) يعني من المذنبين حين خنت زوجك ورميت يوسف بالتهمة وهو بريء وإنما قال من الخاطئين ولم