دعاء يوسف (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) يعني لدعاء يوسف وغيره (الْعَلِيمُ) يعني بحاله وفي الآية دليل على أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أظلته البلية بكيد النساء ومطالبتهن إياه بما لا يليق بحاله لجأ إلى الله وفزع إلى الدعاء رغبة إلى الله ليكشف عنه ما نزل به من ذلك الأمر مع الاعتراف بأنه إن لم يعصمه من المعصية وقع فيها فدل ذلك على أنه لا يقدر أحد عن الانصراف عن المعصية إلا بعصمة الله ولطفه به.
قوله عزوجل : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ) يعني للعزيز وأصحابه في الرأي وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من أمر يوسف على الإعراض وكتم الحال وذلك أن المرأة قالت لزوجها إن ذلك العبد العبراني قد فضحني عند الناس يخبرهم بأني قد راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر إلى الناس وإما أن تحبسه فرأى حبسه (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) يعني الدالة على صدق يوسف وبراءته من قد القميص وكلام الطفل وقطع النساء أيديهن وذهاب عقولهن عند رؤيته (لَيَسْجُنُنَّهُ) أي ليحبسن يوسف في السجن (حَتَّى حِينٍ) يعني إلى مدة يرون رأيهم فيها ، وقال عطاء : إلى أن تنقطع مقالة الناس ، وقال عكرمة : إلى سبع سنين ، وقال الكلبي : خمس سنين فحبسه ، قال السدي : جعل الله ذلك الحبس تطهيرا ليوسف من همه بالمرأة.
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦))
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) وهما غلامان كانا للوليد بن شروان العمليق ملك مصر الأكبر أحدهما خبازه وصاحب طعامه والآخر ساقيه وصاحب شرابه وكان قد غضب عليهما الملك فحبسهما ، وكان السبب في ذلك أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المرك بالملك واغتياله وقتله فضمنوا لهذين الغلامين مالا على أن يسما الملك في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك وقبل الخباز الرشوة وسم الطعام فلما حضر الطعام بين يدي الملك قال الساقي لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم وقال الخباز لا تشرب فإن الشراب مسموم فقال للساقي اشرب فشربه فلم يضره وقال للخباز كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك الطعام دابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما فحبسا مع يوسف وكان يوسف لما دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول إني أعبر الأحلام فقال أحد الغلامين لصاحبه هلم فلنجرب هذا الغلام العبراني فتراءيا له رؤيا فسألاه من غير أن يكونا قد رأيا شيئا قال ابن مسعود ما رأيا شيئا إنما تحالما ليجربا يوسف وقال بل كانا قد رأيا رؤيا حقيقة فرآهما يوسف وهما مهمومان فسألهما عن شأنهما فذكرا أنهما غلامان للملك وقد حبسهما وقد رأيا رؤيا قد غمتهما فقال يوسف قصا علي ما رأيتما فقصا عليه ما رأياه فذلك قوله تعالى : (قالَ أَحَدُهُما) وهو صاحب شراب الملك (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) يعني عنبا سمي العنب خمرا باسم ما يؤول إليه يقال فلان يطبخ الآجر أي يطبخ اللبن حتى يصير آجرا ، وقيل : الخمر العنب بلغة عمان وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأني في بستان وإذا فيه أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد عنب فجنيتها وكان كأس الملك في يدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه (وَقالَ الْآخَرُ) وهو صاحب طعام الملك (إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) وذلك أنه قال إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منها (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبرنا بتفسير ما رأينا وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) يعني من العالمين بعبارة الرؤيا والإحسان هنا بمعنى العلم ، وسئل الضحاك ما كان إحسانه فقال : كان إذا مرض إنسان في الحبس عاده وقام عليه وإذا ضاق على أحد وسع عليه وإذا احتاج أحد جمع له شيئا وكان مع هذا يجتهد في العبادة يصوم النهار ويقوم الليل كله للصلاة. وقيل : إنه لما دخل السجن وجد فيه قوما اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسليهم ويقول اصبروا وأبشروا فقالوا بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أين