يعني وقال يوسف عند ما رأى ذلك (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) يعني هذا تصديق الرؤيا التي رأيت في حال الصغر (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) يعني في اليقظة واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها فقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد أربعون سنة ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : اثنتان وعشرون سنة ، وقال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي : ست وثلاثون سنة ، وقال قتادة : خمس وثلاثون سنة ، وقال عبد الله بن سودون : سبعون سنة ، وقال الفضيل بن عياض : ثمانون سنة ، حكى هذه الأقوال كلها ابن الجوزي وزاد غيره عن الحسن : أن يوسف كان عمره حين ألقي في الجب سبع عشرة سنة وأقام في العبودية والسجن والملك مدة ثمانين سنة وأقام مع أبيه وإخوته وأقاربه مدة ثلاث وعشرين سنة وتوفاه الله وهو ابن مائة وعشرين سنة وقوله (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) يعني أنعم عليّ يقال أحسن بي وإليّ بمعنى واحد (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) إنما ذكر إنعام الله عليه في إخراجه من السجن وإن كان الجب أصعب منه استعمالا للأدب والكرم لئلا يخجل إخوته بعد أن قال لهم لا تثريب عليكم اليوم ولأن نعمة الله عليه في إخراجه من السجن كانت أعظم من إخراجه من الجب وسبب ذلك أن خروجه من الجب كان سببا لحصوله في العبودية والرق وخروجه من السجن كان سببا لوصوله إلى الملك وقيل إن دخوله الجب كان لحسد إخوته ودخوله السجن كان لزوال التهمة عنه وكان ذلك من أعظم نعمه عليه (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) يعني من البادية وأصل البدو هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) يعني أفسد ما بيننا بسبب الحسد وأصل النزغ دخول في أمر لافساده واستدل بهذه الآية من يرى بطلان الجبر من المبتدعة قالوا لأن يوسف أضاف الإحسان إلى الله وأضاف النزغ إلى الشيطان ولو كان من فعل الله لوجب أن ينسب إليه كما في الإحسان والنعم ، والجواب عن هذا الاستدلال أن إسناد الفعل إلى الشيطان وإضافته إليه على سبيل المجاز وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي إضافة الفعل إلى الشيطان لا على الحقيقة لأن الفاعل المطلق المختار هو الله تعالى في الحقيقة «قل لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا» فثبت بذلك أن الكل من عند الله وبقضائه وقدره ليس للشيطان فيه مدخل إلا بإلقاء الوسوسة والتحريش لإفساد ذات البين وذلك بإقدار الله إياه على ذلك (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) يعني أنه تعالى ذو لطف عالم بدقائق الأمور وخفياتها.
قال صاحب المفردات : وقد يعبر باللطف عما تدركه الحاسة ويصح أن يكون وصف الله تعالى به على هذا الوجه وأن يكون لمعرفة بدقائق الأمور وأن يكون لرفقه بالعباد في هدايتهم ، وقوله : إن ربي لطيف لما يشاء ، أي حسن الاستخراج تنبيها على ما أوصل إلى يوسف حين ألقاه إخوته في الجب.
وقيل إن اجتماع يوسف بأبيه وإخوته بعد طول الفرقة وحسد إخوته له وإزالة ذلك مع طيب الأنفس وشدة المحبة كان من لطف الله بهم حيث جعل ذلك كله لأن الله تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) يعني بمصالح عباده (الْحَكِيمُ) في جميع أفعاله.
قال أصحاب الأخبار والتواريخ : إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام عند يوسف بمصر أربعا وعشرين سنة في أهنأ عيش وأنعم بال وأحسن حال فلما حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند قبر أبيه إسحاق في الأرض المقدسة بالشام فلما مات يعقوب عليهالسلام بمصر فعل يوسف ما أمره به أبوه فحمل جسده في تابوت من ساج حتى قدم به الشام فوافق ذلك موت العيص أخي يعقوب وكانا قد ولدا في بطن واحد فدفنا في قبر واحد وكان عمرهما مائة وسبعا وأربعين سنة فلما دفن يوسف أباه وعمه رجع إلى مصر.
قالوا لما جمع الله شمل يوسف عليه الصلاة والسلام بأبيه وإخوته علم أن نعيم الدنيا زائل سريع الفناء لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة والخاتمة الصالحة فقال :