غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعني لمن تاب وآمن ولما ذكر الله أنواع رحمته بعباده ذكر بعدها أنه شديد العقاب لأن الإيمان لا يتم إلا بحصول الرجاء والخوف ثم ذكر بعده ما يدل على سعة رحمته وأنه غفور رحيم.
(ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١))
قوله تعالى : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) يعني ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم إلا تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج ، ففي الآية تشديد عظيم في إيجاب القيامة بما أمر الله وأن الرسول صلىاللهعليهوسلم قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ وقامت الحجة عليكم بذلك ولزمتكم الطاعة فلا عذر في التفريط (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) يعني أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أحوالكم ظاهرا وباطنا (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) يعني الحلال والحرام في الدرجة والرتبة ولا يعتد الرديء والجيد ولا المسلم والكافر ولا الصالح والطالح (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) يعني ولو سرك كثرة الخبيث لأن عاقبته عاقبة سوء. والمعنى : أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا وما عند الله خير وأبقى لأن زينة الدنيا ونعيمها يزول وما عند الله يدوم. وقال ابن الجوزي : روى جابر بن عبد الله أن رجلا قال : يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب» وقال مقاتل : نزلت في شريح بن ضبعة البكري وحجاج بن بكر وقد تقدمت القصة في أول السورة (فَاتَّقُوا اللهَ) يعني فيما أمركم به أو نهاكم عنه ولا تعتدوه (يا أُولِي الْأَلْبابِ) يعني يا ذوي العقول السليمة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) اختلفوا في سبب نزول هذه الآية فروي عن أنس بن مالك قال خطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطبة ما سمعنا مثلها قط فقال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا قال فغطى أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل : من أبي؟ فقال فلان فنزلت هذه الآية (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) وفي رواية أخرى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر فقام على المنبر فذكر الساعة فذكر فيها أمورا عظاما ثم قال : من أحب أن يسألني عن شيء فليسأل ، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي فأكثر الناس البكاء وأكثر أن يقول سلوا فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي؟ فقال : أبوك حذافة. ثم أكثر أن يقول سلوني فبرك عمر على ركبتيه فقال : «رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا» فسكت ثم قال : عرضت علي الجنة والنار أنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر. قال ابن شهاب : فأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة ما سمعت بابن قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما تقارف أهل الجاهلية فتفضحها عن أعين الناس؟ فقال عبد الله بن حذافة : لو ألحقني بعبد أسود للحقته زاد في رواية أخرى قال قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أخرجاه في الصحيحين (خ).
عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلىاللهعليهوسلم استهزاء فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل : تضل ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) الآية كلها وقيل نزلت هذه الآية في شأن الحج عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قالوا : يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم في كل عام؟ فسكت فقالوا يا رسول الله في كل عام؟ قال : لا ولو قلت نعم لوجبت فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أخرجه الترمذي وقال حديث غريب (م).